يرى الكاتب و الباحث الأمريكي هاري فرهوفن في مقالة نشرها في مجلة "فورين أفير" المتخصصة أن أثيوبيا تسير بخطى ثابته على طرق الهيمنة الاقتصادية و السياسية على القارة الافريقية و خاصة في مجلها الإقليمي شرق القارة و في محيط القرن الافريقي.

في 1991 أتت نهاية الحرب الباردة والبلد الأفريقي الوحيد الذي لم يتم إستعماره أبدا من قبل الإمبرياليين الأوروبيين كان نسخة باهتة من أثيوبيا العظمى التي سعت إليها أجيال من الملوك. بعد عقدان من الحرب الأهلية كان هناك مليون قتيل. وتكالبت الحركات الإنفصالية في الأقاليم على حق تقرير المصير. كان الإقتصاد مهلهلا وبدت في الأفق مجاعة كارثية جديدة. بدأ العالم في الربط بين إثيبوبيا وصور مجموعات الأطفال الجوعى وفتح تدهور البلد الإقليمي والمحلي الباب لأسألة عن بقائها نفسه.

يتتبع المؤرخين الوطنين جذور الدولة في إثيوبيا إلى الألفية الثانية قبل الميلاد. قصة الملك سليمان وملكة سبأ هي أحد الأساطير المؤسسة ويتضافر تاريخ أثيوبيا مع الأديان الإبراهيمية. التواجد اليهودي في أعالي جبال أثيوبيا سابق على تدمير المعبد، المسيحيون الأورثودوكس في أثيوبيا يدعون أن تابوت العهد موجود في أكسوم، الهجرة الإسلامية الأولى أو الهروب من الإضطهاد الديني في مكة كان إلى إثيوبيا. أن الأجداد الأسطوريين والعظمة العسكرية تصبغ شرعية على حكام إثيوبيا لقرون بينما هم يسيطرون على إمبراطوريتهم المتنوعة بشكل كبير عبر سياسة الدمج الداخلي العنيف والتوسع الخارجي.

ولكن أفكار العظمة ألقيت محطمة بينما يزحف الجنود المتمردين من الريف إلى أديس أبابا في مايو 1991 ويطيحون بديكتاتورية مانجيستو هيلي مريام (المدعومة سابقا من الإتحاد السوفيتي). وعدت حركة التحرير اليسارية بدستور يعطي حق تقرير المصير لشعوب وجنسيات أثيوبيا التي تفوق التسعين وبالتعامل مع عم المساواة السياسي والإقتصادي التي تمزق البلد. ولكن المراقبين كانوا متشككين في قدرة ما كانت أقوى إمبراطورية في القرن الإفريقي على إعادة تكوين نفسها. عندما إختارت مقاطعة إريتريا في الشمال الشرقي الإستقلال في إستفتاء وحصلت عليه في 1993 لم تقطع مدخل إثيوبيا إلى البحر فقط ولكنها أيضا خاطرت بإشعال مطالب متصاعدة بالحكم الذاتي.

ومع ذلك بعد مرور ربع قرن لا يمكن أن يكون المزاج في أديس أبابا أكثر تغيرا. بين 2001 و 2012-2013 نمى إقتصاد إثيوبيا إلى أكثر من سبعة بالمئة سنويا في المتوسط. كانت الدولة الإفريقية الوحيدة التي تحركت بسرعة تقارن بنمور شرق أسييا – وأن تفعل ذلك بدون إزدهار في مجال الهيدروكاربون أو قطاع تعدين ضخم. المعجزة الإقتصادية نتج عنها تنمية لصالح الفقراء عن حق رافعة ملايين الأشخاص من الدائرة الجهنمية للفقر والجوع وإعتلال الصحة. وبينما إرتفع عدد السكان من حوالي 40 مليون في الثمانينات إلى تقريبا 100 مليون اليوم إلا أنها حققت أهداف الألفية الخمسة عشر للتنمية التي حددت سنة 2000 بالنسبة لوفيات الأطفال ومن المتوقع أن تحققهم في مجال مكافحة فايروس نقص المناعة المكتسب/ الأيدز ودحر الملاريا. تقوم إثيوبيا أيض بخطوات كبيرة لمواجهة تناقص الدخل والأمية. ومع الحصاد الوفير للمحصول الأساسي في إثيبوبيا الأثب التيفي (حبوب مشابهة للدخن) قد يمكن للمزارعين الصغار أن يفلتوا أخيرا من أفخاخ الحصاد التي أبقتهم لسنوات في فقر مدقع.

إن طفرة إثيوبيا الإقتصادية ضمنت مشروع طموح لبناء الدولة من قبل الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الأثيوبية (EPRDF) يتختلف كثيرا عن وصفات إجماع واشنطون للديمقراطية الإنتخابية والإقتصاد الحر. أصبحت إثيوبيا هي النموذج الرائد لما أطلق عليه أنا وزملائي "بناة الدولة غير الليبراليين الأفارقة". عقب عقدين من الحرب الأهلية أنشأت EPRDF نظام سياسي مستدام يسعى للإستقلال عن التهديدات الداخلية والخارجية وبناء مؤسسات فعالة وإنشاء سيطرة مهيمنة على الإقتصاد السياسي. إن المقدرات الإقتصادية في يد المؤسسات المملوكة للدولة أو الصفوة الإقتصادية المتشابكة بشدة مع مشروع   EPRDF . في الإنتخابات البرلمانية الأخيرة ربح EPRDF وحلفائها جميع المقاعد الـ 547 ما عدا أثنان. الحزب دولاتي بشدة عندما يأتي الأمر للتنمية ويعتمد على قاعدة إجتماعية ضيقة ولكن تنظيمها إستثنائي من الجهة السياسية والجبرية. الأخيرة تأتي من عقود من الصراع المسلحة والتعاون الوثيق مع الحزب الشيوعي الصيني الذي قدم المشورة لـ EPRDF في سعيها لتجنيد 5 ملايين عضو جديد بين أعوام 2005 إلى 2010 وطوروا صلات عميقة بين الحزبين. لا يوجد بلد في أفريقيا يكون فيها الحديث عن النموذج الصيني أكثر موضوعية من إثيوبيا تحت حكم EPRDF.

أعادة الحكومة الإثيوبية تبني طموح إقيمي كبير تحت حكم رئيس الوزراء مليس زناوي الذي حكم إثيبويا من 1991 حتى وفاته في 2012 بعد أنا بدا أن سلطتها المحلية أسست بثبات. من المركزي في هذا الأمر رؤية عن أثيبوبيا الكبرى  التي تحقق "أخيرا" قدرها التاريخي بالتخلص قيود الفقر وقيادة أفريقيا: كانت الطموحات المحلية والإقليمية دائما متشابكة في عقل رئيس الوزراء. من ناحية فهم مليس أن تكوين تحالفات والحصول على شرعية دولية سيدعم الإقتصاد الإثيوبي ويعزز حكم ERPDF. وعلى الجانب الأخر لقد رأى أن إثيوبيا الأمنة داخليا قادرة وحدها على تخليص أفريقيا من لقب "القارة الفاقدة للأمل".

لتحقيق طموحاته طور رئيس الوزراء علاقات ممتازة مع مجموعة واسعة من الشركاء يقوده الإعتقاد بأن الإعتماد بشكل لصيق على مجموعة واحدة من الأصدقاء سيعرض إثيوبيا لمزاجيتهم. لذا فقد عقد مليس صداقات مع توني بلير وبيل كلينتون وبيل جيتس وجوزيف ستيجليتس. كما أنه قام برحلات لدراسة المعجزة الإقتصادية في كوريا الجنوبية وناقش إقتصاديات البنية التحتية مع هو جينتاو. كما لعب دور المتحدث الرسمي بأسم العالم النامي بحيوية مساوية ممثلا أفريقيا في G-20  وقمة التغير المناخي حيث شجب عدم المساوة في الإقتصاد السياسي الدولي وتهميش قارته. وبينما تطور EPRDF صلاتها المؤسساتية مع الحزب الشيوعي الصيني لم يرى مليس تناقض مع إستيفاء أديس أبابا لدور "نائب المؤمور" لواشنطون إقليميا في الحرب العالمية على الإرهاب. لقد كان الدبلوماسين والجنرالات والجواسيس الإثيوبين حلفاء أساسين للولايات المتحدة في القرن الإفريقي والبحر الأحمر وخليج عدن.  ومع قلق المسؤولين الأمريكيين حول إستقرار حلفائهم القدامى في مصر وكينيا والسعودية تصير الإعتمادية والفاعلية الإثيوبية حيوية.

مليس وخليفته هيلامريم ديسالجن واللجنة المركزية القوية للحزب طرحوا رؤيتهم لإثيوبيا عظمى في صورة هيمنة إقليمية أليفة: ما هو الجيد بالنسبة لأثيوبيا وما هو الجيد للقرن الأفريقي. وبالتالي ينعكس النفوذ الإثيوبي بشكل متزايد عبر المنظمات الإقليمية التي تسيطر عليها أديس أبابا. تركز أجندتها السياسية المباشرة للمنطقة على منع النزاع (تنشر ألاف من الإثيوبين من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة إلى منطقة أبييه الحدودية بين السودان والسودان الجنوبي) وإدارة الصراع (إستضافة جهود الوساطة في الحرب الأهلية في جنوب السودان) وقتال الإرهاب (العمليات العسكرية المستمرة ضد حركة الشباب الصومالية). وتتمحور الإستراتيجية طويلة الأمد حول الدمج الإقليمي عبر البنية التحتية الخاصة بالطاقة والماء. الخطة هي ربط المنطقة إلى إثيوبيا عبر تصدير ألاف المجواتات من الكهرباء التي ينتجها سدود على النيل الأزرق والأنهار الإثويبية.

هذا عرض مجزي ماليا بالنسبة لإثيوبيا وجيرانها الجائعين إلى الطاقة ولكن فوق كل ذلك سحرك ميزان القوى الإقليمي بعيدا عن نيروبي والخرطوم والقاهرة إلى أديس أبابا. إن إنشاء سد النهضة الكبرى (GERD)  خاصة هو محاولة جريئة لإعادة ترتيب علاقات الطاقة في حوض النيل بمشروع واحد ضخم. إن السد هو أكبر مشروع بنية تحتية في أفريقيا، بسبب الحجم المجرد للخزان سيكون GERD وحده قادر على تقويض الوضع القائم في مجال السياسات الهيدروليكية. إن رؤية EPRDF للدمج الإقليمي هي رؤية للتعاضد الإقتصادي، ولكن بالشروط الإثيوبية إلى حد كبير. إن المكاسب الإثيوبية في برنامج السد هي بأهمية إجمالي المكاسب التي يتم التركيز عليها بلغة "مقاسمة المنافع" التكنوقراطية.

خذ على سبيل المثال "صفقة النيل" في مارس 2015 بين مصر واإثيوبيا والسودان والتي نالت قدرا كبيرا من الدعاية: "إعلان المبادئ" يتضمن ألية جنينية للتعامل مع صراعات المياه والإعتراف بأن دول المنبع مثل إثيوبيا لها الحق في الأولوية في توليد الكهرباء. وبالتالي في على الجنرال عبد الفتاح السيسي في القاهرة أن يعترف كأمر واقع بأن إثيوبيا وليس مصر هي أكثر الدول تأثيرا على النيل. وفي قول أخر أن رؤية إثيوبيا للدمج الإقليمي تحت الهيمنة الإثيوبية الصاعدة تصبح واقعا بشكل متزايد. تدرك الدول الإفريقية والعربية على السواء (وخاصة مصر) سريعا أنه من الأفضل تحسين العلاقات مع أديس أبابا الأن بدلا من تأجل ذلك ثم تصبح مجبرة بعد خمسة سنوات على التعاون مع إثيوبيا وهي أكثر قوة.

إن صعود إثيوبيا كمهيمن إقليمي هو حتمي بالطبع. البنك الدولي والإقتصاديين والسفراء والمنظمات الأهلية قلقون بشأن إستقرار النظام المالي للبلاد والفقر المستمر في المناطق الريفية وغضب ملايين المواطنين الذين يفتقدون للحريات المدنية. دوليا تمكنت إثيوبيا من إحتواء الصراع في جنوب السودان والصومال ولكنها لم تكن ناجحة في حلهم – هناك شكاوى تاريخية ضد أديس أبابا متعمقة في المنطقة وتحد من قدراتها على العمل كوسيط محايد. بالإضافة إلى ذلك فإن علاقات "اللا حرب واللا سلم" مع إريتريا تبقى هاجسا مسيطرا على المؤسسة الأمنية الإثيوبية ولا يقدم الصقور أبعد من الإحتواء المستمر لما يسمونه "النظام المحتال" في إفريقيا. تحتاج إثيوبيا إلى موانئ إيريتريا كي تعزز تحولها الإقتصادي ولكن ليس لأديس أبابا خطة موثوق بها كي تتعامل مع الإنهيار المتوقع في إريتريا (والتدفق الضخم للاجئين الذي سيتسبب به) أو كي تحفز الإصلاح من الداخل.

لقد قطعت إثيوبيا شوطا طويلا بعيدا عن الأيام المظلمة منذ ربع قرن. ولا يمكن أن تخطئ عودتها للصعود داخليا ودوليا. لم يكن هناك أسباب أكثر كي يتفائل الإثيوبيين ويثقون في المستقبل. إن الرؤية الإثيوبية لحوض النيل حيث لم تعد الموارد تؤدي إلى منافسة على المجموع الصفري وحروب عنيفة (بالوكالة) ولكن لإستراتيجية مشتركة لمواجهة الفقر والبطالة والتغير المناخي وتستحق دعم واسع. في نفس الوقت مع ذلك يعرف حكام إثيوبيا جيدا أنهم سيواجهون نضال طويل ووعر لإقناع جيرانهم بنوايهم الحسنة: في منطقة طالما كان التصور فيها أن الإعتماد المشترك هو عبء سياسي بدلا من فرصة إقتصادية فإن إستراتيجية إثيوبيا تولد العديد من ردود الفعل. مدى نجاح البلاد في مهمتها سيحدد إستدامة عودتها ومستقبل القرن الإفريقي.