تتسابق العديد من الاتجاهات الفكرية والاقتصادية، لتحليل ظاهرة كورونا وتأثيراتها واستشراف عالم ما بعدها، في الحوار التالي مع عبد الله صبري الناشط الحقوقي والباحث في سلك الدكتوراه في مجال الانتربولوجيا الطبية، يرى أن العالم يدرس ويحلل، ظاهرة لم تقل بعد كلمتها الأخيرة، فالضحايا في تزايد يوما بعد والتأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تمدد مستمر.

 وهو ما جعل العالم يعيش تحولات وغليانا على جميع الأصعدة، ففكريا، نرى نظريات تنهار وأخرى في طور البناء أو الإحياء، واقتصاديا نرى تحولات على المستوى الفكري حيث تتم مساءلة الليبيرالية الجديدة (النيوليبرالية) والعولمة والسوق الحرة...؛ على أرض الواقع هناك انهيار حقيقي للاقتصاد العالمي، وعودة الدول إلى الانطواء والانغلاق على الذات، لكن تبقى الظاهرة لازالت نشيطة ونحن نفكر ونتكلم من داخلها، وأي سبب او نتيجة للظاهرة وانشطاراتها قد يتغير بين عشية وضحاها، لهذا فأي تحليل أو تأويل لن يكون الا لحظيا قبل ان تكتمل كل أطور الجائحة، نص الحوار.

* كيف تصف وضعية العالم في ظل الجائحة 

** إن تاريخ البشرية في مواجهة الاوبئة ليس وليد اليوم، فقد راكمت الإنسانية تجارب عديدة واحتفظت بالكثير من السلوكيات والممارسات التي لا تزال موشومة في ذاكرتها الجماعية.  والأوبئة كظاهرة مؤثرة على جميع مناحي الحياة البشرية، يمكن مقاربتها من عدة زوايا: فالتاريخ ينقل لنا قصاصات سردية عن الظاهرة تبدأ بالمعلومة البسيطة لتصل الى ما هو أكثر تعقيدا يتمحور حول الفعل السياسي والاقتصادي والصراع حول السلطة... إذا كان الجانب الطبي يهتم بالمرض نفسه من قبيل الأعراض وأنواع البكتيريا او الفيروس واستراتيجية العلاج، فإن الأنثروبولوجي ينير لنا كيف يعيش المريض تجربته المرضية وكيف ينظر المعافون إلى المرضى وكيف تجد الشعوب تفسيرا للأوبئة في ميثولوجياتها السائدة... دون أن أغفل الشق الأدبي الذي يعتبر هو الآخر جزءا مهم، فمن الكوليرا إلى الطاعون تجد أحسن وصف للمشاعر الفردية والصراع مع الخوف والرعب وعدم الاستقرار في السرد الأدبي من تراجيدية الإغريق إلى الأدب المعاصر...

عودة الى سؤالكم، العالم اليوم يعيش تحولات وغليان على جميع الأصعدة، فكريا، نرى نظريات تنهار وأخرى في طور البناء أو الإحياء، أقلام حمراء تصحح هنا وهناك، أنظر الى تفاعلات بعض الفلاسفة والمفكرين، ميشيل أونفري، سلافوي جيجك، اوندري كونت سبونفيل، جاك أطالي، هابر ماس، شومسكي وآخرون، والكلام هنا عن عودة لنقاش الاخلاق والفردانية ومرتكزات وأسس الحضارة الإنسانية الحالية. هناك تحولات اقتصادية: على المستوى الفكري حيث تتم مساءلة الليبيرالية الجديدة (النيوليبرالية) والعولمة والسوق الحرة...؛ على أرض الواقع هناك انهيار حقيقي للاقتصاد العالمي، وعودة الدول إلى الانطواء والانغلاق على نفسها ليس فقط بغلق الحدود بل كذلك استراتيجيا لم تعد تفكر إلا في نفسها والتعاون الدولي شبه منعدم، أو في أدنى مستوياته حتى فيما يتعلق بتوحيد الجهود الدولية من أجل إنقاذ البشرية من الوباء.

مهما حاولنا الإحاطة بوضعية العالم فلن نستطيع ذلك نظرا لتداخل التخصصات من تأثير السياسي وعلاقات السلطة والبنيات الاقتصادية والاجتماعية من جهة ومن جهة أخرى لما يتطلبه ذلك من معارف وتخصصات علمية متعددة (interdisciplinaire).  

* انتشار الوباء والسعي للحد من تفشيه كأنه يضع العالم في مرحلة انقطاع بين ما قبل وما بعد كيف ترى ذلك

**في البداية وكما أشرت سابقا، فالأوبئة بهذا الحجم لها تأثيرات عميقة على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي فهي تضعنا أمام معادلات معقدة ومتعددة المتغيرات يصعب فك رموزها وتخمين منحاها الحقيقي.

 نحن الآن وسط الأزمة وجائحة كورونا لم تقل بعد كلمتها الأخيرة، فالضحايا في تزايد والتأثيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في تمدد مستمر. 

واستنادا إلى الأسلوب العلمي فالظاهرة لازالت نشيطة ونحن نفكر ونتكلم من داخلها، وأي سبب او نتيجة للظاهرة وانشطاراتها قد يتغير بين عشية وضحاها، لهذا فأي تحليل أو تأويل لن يكون الا لحظيا قبل ان تكتمل كل أطور الجائحة.   لكن الوباء علمنا الى حد الان، ان منظوماتنا الصحية لن أقول فاشلة كما يحكم بعض المحللين لكن أقول انها غير مؤهلة لمواجهة مثل هذه المخاطر والتهديدات للوجود الإنساني. لقد كان تركيز الفكر الإنساني بقيادة النيوليبرالية نحو خطر الحروب، واكتساح الأرض وغزو الفضاء والنيازك و... لم نكن نفكر يوما ان فيروسا من هذا الحجم قد يوحد مصير سكان وشعوب العالم و قد يكون السبب المباشر ليس فقط في انهار اقتصاداتنا وكل ما راكمناه من ثقافة وحضارة وتجلياتها بل قد يؤدي إلى الانقراض الفعلي للإنسانية. الازمة لم تكتفي بالتنبيه الى مخاطر الصحة العالمية وإعادة نقاش مفهوم الصحة بين مقاربة "ملك فردي" أو "ملك جماعي" بل تجاوزته لتضع الإنسانية امام عيوب حضارتها في إشارة للعلاقات بين المجتمعات والدول والأفراد وعلاقة الإنسان بالأرض والبيئة عموما ومحدودية النظرة الاستغلالية للموارد الطبيعية...بالتالي فالإجابة على سؤالكم ستكون بالإيجاب حيث من المفروض على الإنسانية ان تعيد النظر في كل هذا وتعيد ترتيب اوراقها أن ارادت الاستمرارية في الحياة. 

السؤال الثالث: إذا حاولنا استشراف المستقبل، هل يشبه عالم ما قبل كورونا عالم ما فبل الوباء

اكيد لن يشبه ما قبل، ففي ظرف وجيز جرت مياه كثيرة تحت الجسر، فالوباء أدى الى تعطيل فوري وغير متوقع للماكينة الاقتصادية في العالم وانهيار الأسواق العالمية والمحلية، وأدى إلى نفاذ بعض المواد والصراع حولها وإلى كساد سلع ومعاملات أخرى كالبترول الذي يعتبر مصدر طاقة أساسي وتوقف بورصة "البرنت" الخ، ومن الجانب الأخلاقي والقيمي عودة بعض التصرفات والسلوكيات المرتبطة بالصراع حول البقاء في دول عاشت لسنين كثيرة في الرفاه وظن الجميع أنها تجاوزت ذلك للأبد. صناعيا و إنتاجيا أبرزت الأزمة خطورة  « la délocalisation industrielle »حيث يتم نقل وحدة إنتاج من التراب الوطني إلى منطقة أو دولة تسمح بالحصول على امتيازات تنافسية، خاصة في الصين، و عودة مساءلة   مفهوم الاكتفاء الذاتي....

إن المعادلة الاقتصادية وتأثيراتها الاجتماعية ستكون أصعب ما ينتظر الأنظمة بعد جلاء الازمة، توفير الدعم المادي لإعادة تدوير عجلة الإنتاج بالشركات، تجنب قدر الإمكان، الخسائر المؤثرة مباشرة على الفئات التي تعيش اجتماعيا في الفقر والهشاشة وتجنب اندحار الطبقة الوسطى....أما على الصعيد السياسي، فالتاريخ علمنا كيف يتم تسييس الأوبئة وكيف كانت السبب الأساسي في تغيير الحكم والأنظمة وتغيير موازين السلطة.

على الصعيد الجيوسياسي هناك عدة تخمينات تنشر هنا وهناك من طرف محللين، هناك من ذهب إلى التنبؤ بأفول الغرب، انهيار النيوليبيرالية، تولي الصين القيادة بدل أمريكا... كل هذا بالنسبة لي أخذا بعين الاعتبار معارفي الأساسية والقليلة في الاغوار الجيوسياسية، وشح المعلومات الحقيقية المتوفرة فتخميني هو ان الأزمة ستكون بالفعل عثرة كبيرة للرأسمالية، لكن لا أستبعد ان تستفيد منها فقط لتصحح نفسها نسبيا كما فعلت من ذي قبل، وأن لجم جشع الليبرالية الجديدة يتطلب وعي الشعوب ونضالات حقيقية في الميدان. 

 * تدبير دول لأزمة كورونا فرض عليها التركيز على ما هو داخلي وتقليص التعاون البيني 

**لكل بلد قصته مع الأيديولوجية النيوليبرالية، فإذا أخذتها بعض الدول المتقدمة كخيار استراتيجي فإن الدول المتخلفة كانت مفروضة عليها من طرف البنك الدولي ومؤسساته المالية، ثم سقطت فريسة سهلة لجشع وطمع الشركات المتعددة الجنسيات. والمغرب مثلا بدأها بالتقويم الهيكلي في الثمانينات تبعتها الخوصصة في زمن الحكومة الاشتراكية في التسعينات ثم إلغاء القيود الجمركية والانفتاح على السوق الحرة.... قلت هذا لأذكر أننا كنا مرغمين على الانفتاح الاقتصادي ولسنا أبطاله...

وها نحن اليوم نرغم على الانغلاق بقوة الوباء وبمقاربة برغماتية للسلطة السياسية. الانغلاق اذن كان فرضا وليس اختيارا، ولا يتجلى فقط في مستوى الدولة حيث غلق الحدود ومنع الدخول والخروج من وإلى البلد، فعلى مستوى المجتمع، فرض القرار السياسي للحجرالصحي انقطاعا للعلاقات الاجتماعية والاتصالات المباشرة، وانغلقت الأسرة عن المجتمع ولم يعد يخرج سوى ممثل وحيد وبمهام محددة في توفير العيش، بل على مستوى الفرد حيث الكمامة تجنب أي اتصال بالخارج وغسل اليدين المتكرر رغبة في التخلص من أي بصمة للعالم الخارجي...

الانغلاق الاقتصادي وغياب التعاون، حيث الكل يفكر في نفسه وفي مواطنيه في نوع من الانانية والنرجسية، أملته عدة عوامل، أولها أن الجائحة همت جميع الدول وباغتت الجميع، والصفة الغير توقعية للوباء، لكونه جديدا ومعرفة العلم به غير مكتملة، وبالتالي فلا أحد يدري كم ستكون مدته، ما هي حجم الخسائر في الاقتصاد الوطني فألقى هاجس الاكتفاء الذاتي ظلاله على السياسيين في البلدان، وكانت حالة إيطاليا والاتحاد الأوروبي خير مثال على هذا التمزق الاخلاقي والتعاقدي بين واجب تقديم المساعدة وهاجس الاكتفاء الوطني....