من مدينة مصراتة وسط ليبيا، خرج الرجلان في سياقات مختلفة نحو غمار السياسة التي يقفان فيها هذه الأيام على طرفي نقيض. المدينة التي كانت مركزا اقتصاديا ثابتا في ليبيا وإغراءات المال فيها أكثر من إغراءات السياسة، يخرج منها سياسيان أسعفتهما "ليبيا الجديدة" ليكونا في واجهة الأحداث في بلد الاختلافات فيه أصبحت عادة لا تفاجئ الليبيين، بل يكاد يكون التفاهم والتوافق الاستثناء الذي يفرح له المواطن بعد أن عاش عشرية شعارها الأساسي السلاح والانقسام.
السياسيان المعنيان في الحديث السابق هما، رئيس الحكومة "المعفاة" عبد الحميد الدبيبة والرئيس "المكلف" فتحي باشاغا اللذين لم يشفع انتماؤهما المناطقي في أن يأخذ كل واحد منهما مسارا خاصا به في غمرة صراع على المسار السياسي الذي يتدرّج نحو إعادة الأمور إلى الانقسام وسط تخوفات من كابوس الخلافات الذي لم ينته إلا عبر اتفاق سياسي اشتركت في الوصول إليه قوى نفوذ داخلية وخارجية أفرز حكومة لم يعد الاستبشار بها كما كان في السابق ويُعتقد أنها تقضي أيامها الأخيرة لتترك المجال لحكومة جديدة تأخذ البلاد نحو انتخابات طال انتظارها.
لكن بعيدا عن الراهن السياسي الذي أسعف الرجلين بأن يصعدا إلى واجهة الأحداث سنحاول أن نبحث في سيرتهما السياسية سابقا وما تحمله سيرتهما من نشاطات تشفع لها الموقع الذي أصبحا فيه أم أن الصدفة والظروف منحتاهما فرصة للتاريخ بأن يجلسا على كرسي الحكومة الليبية ويكسبان شعبية ما كانا ليحظيا بها لو لم تعش البلاد ما عاشته بعد العام 2011.
الأول هو عبد الحميد الدبيبة، الذي انتخب في فبراير 2021، ليكون رئيسا لحكومة وحدة وطنية طال انتظارها بعد ضغوط خارجية ورغبة داخلية في إنهاء الانقسام والتحارب. الدبيبة هو رجل أعمال وسياسي ليبي  من مواليد مدينة مصراتة عام 1962، حاصل على درجة الماجستير في تخطيط المباني والهندسة من جامعة تورنتو الكندية، ويعتبر شخصية ذات نفوذ مالي كبير بفضل الشركات التي يمتلكها وعدد من أقاربه.
ترأس قبل العام 2011، مجلس إدارة الشركة الليبية للتنمية والاستثمار القابضة، وهي مؤسسة  حكومية أشرفت على العديد من الاستثمارات في المشاريع الكبرى والبنى التحتية، وتعتبره أطراف كثيرة مقربا من النظام السابق رغم أنه في السنوات الأخيرة تلاحقه الاتهامات بالقرب من تيار الإخوان المسلمين بالإضافة إلى علاقته التي تعتبر قوية بمجموعات نافذة في السياسة التركية وحتى بالرئيس رجب طيب أردوغان.
كما ترأس عبد الحميد الدبيبة جهاز تنمية وتطوير المراكز الإدارية، وهي هيئة استثمار ضخمة مكلفة بتحديث البنية التحتية الليبية وكانت تحت إدارة ابن عمه علي الدبيبة بين 1989 و2011، وهي فترة ساعدت على تكوين ثروة ضخمة قربته من المراكز القرار في مختلف الفترات، كما لم تبرئه من عدد من التهم في علاقة بتعاملاته داخليا وخارجيا.
أسس الدبيبة حزبا تحت اسم تيار المستقبل وحاول أن يسوق لنفسه على أنه شخصية مستقلة قادمة من خلف التناقضات التي ضربت البلاد على كل المستويات، وقد ترشح ضمن متنافسين على منصب حكومة الوحدة وفاز في بداية فبراير 2021، بشكل مفاجئ في التصويت من قبل ملتقى الحوار السياسي في مدينة جنيف السويسرية متفوقا على شخصيات أخرى تعتبر ذات شعبية ونفوذ أقوى في الساحة الليبية.
الشخصية الثانية هي شخصية فتحي باشاغا، الذي يعتبر أيضا شخصية اقتصادية غادرت مبكرا وظيفته العسكرية وتوجه إلى التجارة في ليبيا والخارج، وقد نجح في هذا المجال الذي لم يتخل عنه حتى في قلب الأزمة الليبية وراوح بين العمل العسكري السياسي والنشاط التجاري.
 يختلف باشاغا عن سابقه أنه صعد مباشرة إلى الواجهة بعد إسقاط نظام القذافي، عبر الانخراط في العمل المسلح انطلاقا من مدينة مصراتة التي ولد ونشأ فيها عبر المشاركة مع المجموعات المسلحة بحكم خبرته وعمله السابق كطيار، حيث انضم إلى اللجنة العسكرية التي تأسست في الأيام الأولى من الأحداث مع نخبة من القيادات العسكرية في المدينة، كما تولى مكتب المعلومات وتقديم الإحداثيات الى حلف الناتو والتنسيق مع المجلس العسكري لمدينة مصراتة.
في انتخابات العام 2014 انتخب نائبا في البرلمان لكنه سرعان  ما انضم الى قائمة مقاطعي الجلسات ضمن تحالف تيارات الإسلام السياسي، إلى حين تكليفه في أكتوبر 2018، من قبل حكومة الوفاق بمهام وزير الداخلية ولم يغادر منصبه إلا بعد ملتقى الحوار السياسي الذي أفرز حكومة عبد الحميد الدبيبة.
عاد اسم باشاغا للأضواء مؤخرا بعد أن أعلن مجلس النواب في طبرق أنه اختاره بالإجماع، رئيسا جديدا للحكومة خلفا لعبد الحميد الدبيبة، في عملية تصويت خلفت ككل التطورات جدلا وأعادت التخوفات من انقسام سياسي جديد هذه المرة بتشابك جديد في أوراق اللعبة بعد تغير التحالفات واختلاف المصالح.
ومن خلال هذه المقارنة بين الرجلين يظهر جليا أن الاقتصاد ربيب السياسة، بل ربما هو محركها الأساسي. فالدبيبة وباشاغا اقتصاديان في الأساس، لكنهما اليوم سياسيان من الصف الأول، كل يرى في نفسه مشروع زعيم لليبيا، وكل واحد يربط شبكة علاقاته حتى بالتناقضات من أجل أن يضمن لنفسه مكانا في مواقع القرار وهذا بقدر ما يعتبره البعض أمرا عاديا في بلد مازال يبحث عن استقراره، بقدر ما يرى كثيرون أنه مؤشر مخيف عن عودة الانقسام والحل في كل ذلك هو إجراء الانتخابات التي كانت دائما رهانا للشعب لكنها مجرد آلية للمناورة والحسابات بالنسبة إلى السياسيين.