لست هنا في وارد الحديث عن غياب الديمقراطية والحريات العامة والخاصة في ليبيا، لست هنا في وارد الحديث عن تسليم ليبيا لحفنة من المتصارعين وفق أجندات داخلية وخارجية، لست هنا في وارد الحديث عن تغلغل الفساد في عهد حكومة الدبيبة...! ليبيا اليوم على مفترق طرق، إما... أو! إما أن تبقى الدولة، أو أن تنتهي مرة وإلى الأبد، فينقسم المقسّم ويتفتّت المفتت. إن الأزمة التي تعصف بليبيا اليوم، تشكل "حدثاً كاشفاً" عن عمق الأزمات الداخلية المركّبة التي تعاني منها الدولة الليبية. 

لا نتائج بدون مقدمات ولا وقائع وتطبيقات بدون أسباب، إن القانون الاجتماعي والسياسي يقدم باستمرار منهج الإحاطة باللحظة الراهنة والإحاطة بكل الأسباب والمقدمات التي أدت بالأوضاع في ليبيا إلى التصعيد، وإعادة الاصطفاف ومن ثم تعميق الاستقطاب، والصراع بين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة فتحي باشاغا، وهذا الصراع المفتوح يلقي بظلاله ونتائجه السلبية على الأوضاع في ليبيا، وبات يهدد باحتمال اتساع الاحتكاكات والاشتباكات المسلحة بين الميليشيات والقوى المختلفة التي يسعى كل منها إلى الحفاظ على مصالحه المباشرة والضيقة ولو على حساب مصالح ليبيا الدولة والشعب في النهاية. إن القاعدة الأهم والقصوى في بناء المجتمعات وصيانة حركتها هي التي تقول عليك دائماً أن ترى الشر قائماً أبداً، وأن الخطر قادم أبداً وأن تكون استجابتك عبر هذه القاعدة في المنطقة الأعلى من الفعل والفاعلية، ومن الحذر والتنبه وفي ذلك كله لا يجدي بطبيعة الحال سوى المناخ الديمقراطي وانتشار آليات التقويم والنقد، واختبار موجودات الواقع المادية والمعنوية وإعادة تأهيل القوى البانية بمعيار المسؤولية واستطلاع آفاق وخطوات المستقبل القادم من بعيد أو قريب، وفي أصل ما يمكن متابعته في تيارات الواقع المختلط والمتفجر تظهر أيضاً نزعة اللامبالاة في تقدير الخطأ والخلل عبر لحظتهما، وعندما يحدث ذلك تتراكم أخطاء التقدير مع أخطاء الواقع ويصير لها منطقة عازلة وعمر زمني مشؤوم، وتصبح معالجة هذه الأخطاء صعبة ومكلفة.

الثابت لدينا، أنه حينما يكبر الصراع السياسي الليبي المعقد على العقل الوطني المواجه، تتراجع بعض عناصر الحكمة في العقل، ويصبح عقلاً في حالة دفاع سلبي تتفلّتُ الأمور من بين يديه، وتذهب الأحداث بين مرئيات متعددة،  فلا هو قادر على مواصلة الإمساك بزمام تحرك الأحداث، ولا هو قادر على ضبط الإيقاع الليبي كما يلزم، وعندها يدخل الشعب الليبي في مسارب مجهولة أقل ما يقال فيها:‏ إنها قد تخرج بليبيا من حلبة السياسة، والعقلانية، وتخرج بالعقل السياسي عن موقعه في أن يكون دوماً عقلاً حاضراُ، في حالة تحفّز، وبإيجابية وطنية تُبقي كل شيْ تحت المقود التاريخي للسيرورة الوطنية، والمبادئ الموضوعية لحلم أحرار ليبيا في وطن آمن ومستقر، وفي منظومة الجميع في الوطن الواحد، وعبر تدافعات المسألة الليبية لأكثر من عشر سنوات، آن للعقلية الوطنية المخلصة أن تستدرك اتجاهات التحول للأحداث داخل ليبيا، ثم اتجاهات التحول الإقليمي بخصوصها، ثم الاتجاه الدولي في نهاية المطاف، وحين يكون العقل الليبي في حالته التاريخية المعروفة بالعراقة المعرفية، وبالحكمة الوطنية، وبقابلية التكيف والمواءمة مع نمو حركة الليبيين، والتاريخ لا بد أن يَصْدُرَ عن قرارات حاسمة في طبيعة الصراع الداخلي، ليرى أن الشعب الليبي لم يعد في حالةٍ من الانتظار المتردد ليلفظ الكلمة الحاسمة، بل صار يجاهر برفضه للعنف التدميري في ليبيا، والذي لا يمكن أن يكون عَبْرَهُ انتقال للسلطة، حيث بعد تدمير الميليشيات المتناحرة للوطن لا يمكن أن تبشر الشعب بمستقبل، وبسلطة أفضل، هذا إذا افترضنا أن من يحمل السلاح ويروّع الليبيين هو قادم بسلطة تهدئ من روع الليبيين، وتوفر لها أسباب الحياة الكريمة على صورة أحسن من الحاضر الموجود.‏ 

إن البحث المنهجي والنظري في الواقع السياسي والاجتماعي الليبي، تيار ممتد وواسع الأبعاد، ومن الضروري الانطلاق منه بقصد تفسير ما يجري في ليبيا اليوم، وبناء أسلوب المواجهة لهذا الذي يجري، لكن ما ألمحت إليه من نقاط لا يعدو كونه مجرد تثبيت لرؤية يشترك فيها جميع الليبيين، لأن الألم أصاب الجميع، وكم أتمنى أن تنهض النخب الفكرية والثقافية ومراكز الدراسات المتخصصة في مهمة البحث المنظم للحدث الليبي بدلاً من أو إضافة إلى الخطاب الإعلامي الذي مازال يراوح في المنطقة ما بين الوصف الظاهري لما يحدث والحديث العابر عن العوامل المؤسسة لهذا الحدث في الداخل، أومن الخارج، ودعونا نعترف بلا مواربة بنقاط نراها مهمة، أولها أن الحدث في ليبيا جاء وتطور وكأنما هو زلزال خلع الليبيين من الجذر وأطلقهم على كل الاحتمالات وأعادهم إلى ذاتهم يقوموها ويحاسبونها، ودفع فيهم هذا الشعور المتدفق بضرورة وعي الحسابات الداخلية والخارجية وبضرورة الابتعاد عن الجزئية الصعبة التي استبدت بهم، والتي تقوم على فكرة قطع الحدث عن مقدماته ونتائجه وفصل التواصل بين عوامل الحدث ومظاهره وعدم ربط الحدث بقواه السياسية والاجتماعية المتناقضة. كانت هذه النقطة الصعبة مغيبة بفعل فاعل ومن آثارها دفع الأصحاء والمناضلين والمفكرين إلى الهوامش بدلاً من المتن وإلى التبعية بدلاً من الفاعلية والقيادة. 

كلنا يعلم، بأن القاعدة الفقهية تقول بأن بناء الأوطان فرض عين وليس فرض كفاية، والنظام السياسي يبنى مع الآخر وليس للآخر فحسب، وهو ما يتطلب حالياً استباق الزمن، وبدء مرحلة جديدة قوامها التفكير الإستراتيجي بليبيا ما بعد حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وحكومة فتحي باشاغا، من خلال إعادة التفكير ببنية الدولة ككل متكامل، على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومختلف الجوانب الأخرى المؤثرة. إن الادعاء بالفضيلة والإيجابية بالإنجاز لا يكفي عادة لابد من إشراك الآخرين، كل مواطن مسؤول ولكن على قدره وفي موقعه وفيما يتكامل مع التيار العام، والنقطة الصعبة وذات الطبيعة الإشكالية الكبرى تتمثل في موقف الآخر منا والآخر هو حكومات في الوطن العربي ودول كبرى مثل أمريكا وتركيا وأوروبا، والآخر أيضاً هو عقائد وثقافات وأنماط من الخطابات الدينية والاجتماعية، وهذا الآخر في المحصلة هو قائمة قوى لها موقف سلبي من ليبيا وتنتظر اللحظة التي تنقض فيها على ثروات ليبيا، ومن هنا فإن التفريق واجب بين التفاعل مع الآخر الغريب عن قضايا ليبيا وعن الوجود والثقافة الليبية، وبين التفاعل والأخذ والرد في عالم لابد فيه من هذا التفاعل ولا بديل عن الأخذ والرد فيه، والقوى على الضفة الأخرى صاحبة خبرة في التدمير والاستعمار والمؤامرات، ومازالت تتمتع بذات الشهوة وبنفس الشبق لتحطيم المواقع الحية في الوطن العربي وفي أصلها ومقدمتها ليبيا.

إن الاعتقاد هنا ليس ظناً ولكنه حاسم في تفسير الحدث الليبي القائم ونلاحظ فيه نزعتين الأولى أن عناصر الفتنة في الداخل هي من النماذج الرخيصة ومن أصحاب القابليات في الارتداد المفاجئ على أي شيء، ومنطلقهم الأول هو الانتشار الوبائي واستمداد الدعم في المال والإعلام والسلاح من أي مصدر كان ! والنزعة الثانية هي هذا التفوق المحموم في اعتناق مبدأ القتل المليشياوي والتدمير دون تبصر بقيم ودون إحساس بألم، لعلنا نلاحظ بأن هذه الشرائح والمليشيات هي الأضعف فكرياً واجتماعياً ولكنها الأخطر بالجريمة والانتشار، ومن هنا فكل أحرار ليبيا يطالبون بإنهاء دورة العنف التدميري لليبيا، ليدخل الشعب الليبي في رحاب الوطنية الآمنة، وتتداعى قواه الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، إلى طاولة حوار وطني جامع لا يستثني أحداً.  


والحال عليه لابد من برنامج سياسي كمدخل لحوار وطني جامع وصولاً إلى الدستور الجامع، وليبيا الدستورية الجديدة بوابة عقلانية في الاتجاه السليم، وقبل هذا وذاك، لابد من وقف دعم العنف من أي جهة أو دولة، وفي المرحلة الثانية لابد من تحديد آليات العمل لتوضيح ملامح المرحلة الانتقالية، وتوجيه الدعوة لعقد مؤتمر حوار وطني جامع، يهدف إلى صياغة المستقبل السياسي الليبي، لتوضيح ملامح ليبيا القادمة بأنها ديمقراطية ودستورية تقوم على مبدأ فصل السلطات، والتعددية السياسية والاقتصادية، وسيادة القانون، والتمسك بمدنية الدولة، والمساواة بين المواطنين، ثم حرية التعبير واحترام حقوق الإنسان، ومكافحة الفساد ـ وتطوير الإدارة، والاتفاق على قوانين جديدة للأحزاب، والانتخابات، والإدارة المحلية، والإعلام ثم ما يتّفق عليه خلال مؤتمر الحوار. وبَعْدُ تتشكل حكومة موسعة ذات صلاحيات تنفيذية واسعة. وفي المرحلة الثالثة تتشكل حكومة جديدة وفقاً للدستور الجديد، ويعقد مؤتمر المصالحة الوطنية، وإصدار العفو العام، وأخيراً تأهيل البنى التحتية، وإعمار ما تمَّ تدميره، والتعويض على المتضررين، وبذلك تكون الدولة قد قدمت برنامجها للخروج من الأزمة وباتت بانتظار العقلانية الليبية المطلوبة من أجل دخول مرحلة الحوار، والتفاهمات بالشراكة الكاملة، وفتح بوابة المستقبل القادم لليبيا الموحدة أرضاً وشعباً.‏ 

كاتب صحافي من المغرب