بنود ومَضامين البيان الختامي الصادر عن اجتماعات برلين2 جيدة، وتُوحي بأن ثمة تقدماً كبيراً يُسجل لها، سواء لجهة المُفردات السياسية المُعتمدة أم لجهة اللغة الحاسمة، التي تقضي بضرورة إخراج جميع القوات الأجنبية من الأراضي الليبية، والحفاظ على سيادة ليبيا موحدة ومستقلة، لكن لابد أن نؤكد أنّ بيان برلين 2 لم يستطع أن يحول دون بقاء بعض اللغو الإقليمي والغربي سائداً ومستشرياً في قراءات الكثيرين، رغم ما فيه من حسم لكثير من التقوُّلات، وتجاوز لما بات بعرف المنطق والعقل من حقبة سابقة لا طائل من العودة إلى الثرثرة على هوامشه، كما لا فائدة ولا جدوى من النفخ في القربة المثقوبة ذاتها، ولو تغيرت النغمة أو تبدَّل السياق. وبشكل واضح، فإن مخرجات المؤتمر كانت أقل بكثير من المتوقع... يؤكد ذلك تصريح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، متحدثا في مؤتمر صحافي، أنه يعتقد أن هناك تفاهما بين تركيا وروسيا على سحب تدريجي للقوات الأجنبية من ليبيا للحفاظ على التوازن، وإنه لن يحدث بين عشية وضحاها.
لقاء برلين2... بمشاركيه ومتابعيه وحتى معانديه في شدهم العكسي... حاول أن يرسم خطًّا متعرجاً بين هوامش وأروقة متناقضة ومتعارضة، وأن يفتح خطوط تماسّ مباشرة بين مقاربات متصارعة حتى على المصطلح، بعد أن تعاركت على محاكاة الهدف والغاية والأجندة، لكنه يصطدم حتى اللحظة بغياب واضح لمسلمات ونقاشات طافية على سطح المشهد، وبافتقاد لإجابات مؤجلة عن أسئلة صعبة ومعقدة عن الإرهاب ومموليه وداعميه ومريديه ومتبنيه، والأهم عمن بقي يصر على التعويل عليه والرهان على ما سيجنيه...!
وتعد الدعوة إلى الانسحاب الفوري للمرتزقة والقوات الأجنبية، وكذلك دعوة السلطات الليبية لبذل كل ما في وسعها لتنظيم الانتخابات العامة، في 24 كانون الأول القادم، الأطروحات المركزية لمشروع الإعلان الختامي الذي تمّ اعتماده في ختام المؤتمر الثاني حول ليبيا، وتضمن البيان الختامي مواضيع عدة مثل الأمن وعملية السلام، والإصلاحات الاقتصادية والمالية، واحترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان. وهذا هو ثاني مؤتمر حول ليبيا تستضيفه ألمانيا، حيث استضافت المؤتمر الأول في كانون الثاني 2020 بمشاركة رؤساء دول من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي اعتبر بنظر مراقبين أنه الأكثر فعالية من بين جميع المؤتمرات الخاصة بليبيا لأنه كان من الممكن التوفيق بين مواقف الوسطاء الخارجيين. ومع ذلك، تم إطلاق عملية السلام الحقيقية بعد بضعة أشهر فقط، و في تشرين الأول الماضي تم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، وفي شباط 2021 تم إطلاق الحوار السياسي الليبي الذي عقد في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة، كما تم انتخاب أعضاء في المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي، و رئيس الوزراء عبد الحميد دبيبة.
لقد انقسمت التكهنات والتحليلات حول مؤتمر برلين 2 ومدى فعاليته على الأرض، ففيما يتفاءل البعض بأن المؤتمر سيعطي دفعة جديدة للعملية السياسية التي تقودها السلطة التنفيذية الجديدة، ممثلة بحكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي، على طريق الاستقرار الدائم مع الترتيب لانتخابات عامة نهاية العام الحالي، يبدد البعض الآخر أجواء التفاؤل بالقول إن المؤتمر لن يفضي لأكثر مما أفضى إليه المؤتمر السابق، بسبب التدخل التركي وتعقيدات المشهد الليبي، واصفاً مهمة السلطة الانتقالية بأنها أشبه بالسير في حقل ألغام، في ظل المعطيات الحالية، بخاصة فيما يتعلق بإجراء الانتخابات في كانون الأول القادم.
إنّ الطرف التركي الأردوغاني المُشارك، يُمارس على أرض الواقع كل ما يَتناقض مع مخرجات برلين 2 ! الأمر الذي يعني أنه لا يَمتلك إرادة الالتزام بالمُخرجات، لأنه جزء من العدوان. فالنظام التركي لا يزال يحاول شراء الوقت بالتنصل من إخراج مرتزقته من الأراضي الليبية، وأردوغان بمواقفه المرفوضة هذه لا يعرقل الحل السياسي للأزمة في ليبيا ويطيل أمدها فقط، وإنما يعمل لتوطين الإرهاب والإرهابيين في المناطق التي تحتلها قواته ومرتزقته على حساب الليبيين الذين هجرهم الإرهاب من ديارهم ويستغل مأساتهم.
ولا جدال بأن محاولات بث الحياة في مصطلحات فقدت صلاحيتها لتكرار فشلها، أو إنعاش إرهاب بلغ حدود الموت واقعياً، لن تحد من فشل سياسة تركيا بتصنيع ودعم الإرهاب الذي تحاربه ليبيا ومنذ سنوات وما تزال. فالسياسات الخاطئة لا بد من أن تؤدي إلى نتائج أشد كارثية، ما يعني ضرورة الابتعاد عن المصطلحات العائمة والمصالح الضيقة الضاغطة، والتوجه بنزاهة ومسؤولية وفقاً لما خلص إليه اجتماع برلين 2، بضرورة توحيد القوات العسكرية في ليبيا وإجراء الانتخابات في موعدها، وسحب المقاتلين الأجانب من البلاد. وما من شك بأن نتائج اجتماع برلين2 سوف تبقى مرهونة بالأفعال واتجاهاتها المختلفة.
وعند الحديث عن دور النظام التركي على الأرض يتضح جلياً لكل متابع غياب الإرادة الحقيقية عند النظام التركي للعب دور حقيقي وفاعل في العملية السياسية بشكل عام، وبخاصة لجهة إخراج التنظيمات والمجموعات الإرهابية على وجه الخصوص، وهذا يُعزى بطبيعة الحال إلى أن جعبة أردوغان الأخوانية والعثمانية لا تزال ملأى بالمشاريع والمخططات الاحتلالية، وقد صرَّح عنها في أكثر من مناسبة، وهذا ما يؤكد أن رأس النظام التركي ما يزال بعيداً عن طريق التعاون الحقيقي والصادق مع بقية الدول الضامنة لإنجاح أي عملية سياسية تراعي مطالب ومصالح الشعب الليبي.
لقد أصبح معلوماً أن تركيا هي من يلعب الدور الرئيسي في النزاع الليبي، وهي الذي يضع الأفخاخ أمام توافق الليبيين على حل سياسي ينهي محنتهم، حيث توظف كل إمكانياتها من أجل دعم مرتزقتها وأدواتها، بزعم أنّ الحكومة الليبية هي من طلبت وتطلب الدعم التركي، في حين يعرف القاصي والداني أن المليشيات التي تحكم طرابلس والغرب الليبي، هي مليشيات إرهابية تتوزع بين تنظيم القاعدة وتنظيم الإخوان المسلمين، وهي التي تحاول منع الجيش الليبي الذي يقوده المشير خليفة حفتر من بسط الأمن والاستقرار في عموم ليبيا. وقد وجدت تركيا بالحكومة السابقة، فرصة ذهبية من أجل تثبيت أقدامها في شمال أفريقيا، واحتلال موقع استراتيجي تحاصر به اليونان ومصر، في إطار الصراع الحامي حول ثروات البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى ما ستجنيه من ثروات طبيعية من بترول وغاز طبيعي في ليبيا يؤمن لها خط النمو التصاعدي، وتحويل ليبيا إلى قاعدة متقدمة لها في شمال أفريقيا من أجل المنافسة على الاستثمارات داخل القارة السمراء، حيث انتقل عدد السفارات التركية في أفريقيا من 12 سفارة سنة 2012 إلى 42 سفارة سنة 2019، وهو ما يفسر الاهتمام التركي المتزايد بأفريقيا، وليس سراً أن ليبيا تمتلك أكبر احتياطي نفطي في القارة الأفريقية حيث تجاوزت احتياطاتها الـ 40 مليار برميل.
لهذا وذاك، تبقى هناك دائماً حلقة مفقودة في التطبيق الفاعل على الأرض لمخرجات ونتائج اجتماعات برلين 2، لأن النظام التركي غير جاد وغير صادق وغير مهيأ للالتزام بها، بسبب غياب النيات الصادقة من قبله، وهذا ما يمكن قراءته بشكل واضح طيلة الجولات السابقة، إذ ما زال يماطل في إخراج مرتزقته ومسلحيه، ويتصرف بما يترجم عدم التزامه بوحدة وسيادة الأراضي الليبية من خلال الإبقاء على قواته المحتلة في بعض المناطق الليبية واتخاذ إجراءات، والقيام بممارسات وانتهاكات تشي بأجندة احتلالية طويلة الأمد تذكر بأجندات أجداده العثمانيين . ولتأكيد المؤكد، كشف مدير إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة الليبية، اللواء خالد المحجوب، بأن الخلاف تفاقم وأصبحت هناك لغة أخرى بين بعض الدول، فيما يتعلق بخروج المرتزقة والقوات الأجنبية، خصوصا الدول خارج الإقليم، لافتا إلى أنه يبدو أن ألمانيا تحاول أن تجد مخرجا لتركيا، بخاصة أن ورقة المرتزقة تستخدم الآن بشكل آخر، حيث تسعى أنقرة من خلالهم لتحقيق أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية، وهذا لا يخفى على أحد، على حد قوله.
خلاصة الكلام: منذ بداية إطلاقه، لم يكن برلين إلا عنواناً دولياً كبيراً لعملية سياسية "طويلة وشاقة"، غايتها النهائية إيجاد مخرج سياسي مناسب (للمجتمع الدولي) من (الأزمة) التي تلقي بظلالها الأمنية والاقتصادية على دوله... فالغرب غزا ليبيا ودمرها ونهب خيراتها وثرواتها، وبعد عشرة أعوام، يزعم أنه يساعدها ويبحث عن حلول لإحلال السلام فيها، كما يزعم أنه حريص كل الحرص على شعبها وعلى وحدتها... من اتفاق إلى اتفاق ومن مؤتمر إلى مؤتمر، يعاد إنتاج سيناريوهات الحل السياسي العصي على التنفيذ... ويقول المراقبون، أن في حقائب وفود الدول المؤثرة في الأزمة الليبية أوراق أخرى تنتظر وضعها على طاولة المفاوضات، حالما تبدو الطريق سالكة أمامها، ويتعلق الأمر بحصتها في خطط إعادة إعمار البلد بعد حوالي عقد من الفوضى، لكن طالما لم تحدد هوية الأطراف التي تعرقل وتمارس الأعمال العدائية، وتساوي بين الجيش الذي يحمي البلاد والميليشيات فإن الأمور تبدو صعبة... وفي نظرنا المتواضع، أنّ الواقعية السياسية والعقلانية ووضع المصالح العليا للشعب الليبي في المقام الأول، هي المدخل الوحيد والضروري لحل حقيقي ينهي الأزمة ويعيد ليبيا والمنطقة إلى حالة الأمن والاستقرار.