مرّة أخرى تكون البعثة الأممية لدى ليبيا في واجهة الأحداث لسببين؛ الأول أنها تلعب في الفترة الأخيرة دورا في الحوارات الدائرة على أكثر من اتجاه، والثاني من خلال الحديث عن مبعوث جديد، حسب إشارة سابقة من الأمين العام أنطونيو غوتيريش، ينتظر أن يبدأ مهامه بمجرد انتهاء المبعوثة الأممية الحالية ستيفاني ويليامز من إشرافها على الاجتماعات التي تدخل مرحلة حاسمة من الأزمة الليبية والتي يبدو أنها ستحقق فيها الحد الأدنى من التهدئة وإعادة الأمل لليبيين بتوحيد المؤسسات الرسمية، إضافة إلى تحديد تاريخ للانتخابات يكون نهاية العام 2021.
الحديث عن البعثة الأممية في ليبيا هو حديث عن ست تجارب سابقة، كلها لم تستطع إنهاء حالة الصراع، منها من دخل وخرج ولم تُعرف له إلا ابسامات أمام الكاميراوات ومنها من لم يفهم حتى الواقع الليبي الذي عيّن لأجله، ومنها من لم تدم فترته إلا أياما قليلة وغادر بلا أي أثر، بل إن بعض المبعوثين كان سببا في تعميق حالة الانقسام من خلال اتفاقات عرجاء، فرضها الخيار الدولي خارج إرادة الليبيين. ومن هنا يطرح سؤال التعيينات في البعثة واختيار الأشخاص المناسبين لها، وكأن الملف الليبي رغم حساسيته ليس بتلك الأهمية التي يركز عليها المجتمع الدولي.
المبعوث المرتقب هو البلغاري نيكولاي ملادينوف، القادم من تجارب دبلوماسية في مناطق مختلفة من العالم، وأغلبها مناطق توتر. دخل غمار العمل الدبلوماسي في سن مبكرة نحو تمثيلية الاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، كما كان مبعوثا أوروبيا إلى العراق وأفغانستان والأراضي المحتلة، حيث حاول تحريك ما يسمى بعملية السلام، ويعتبر من رافضي سياسة الاستيطان الصهيوني رغم الانتقادات حول تعاطفه مع الموقف الصهيوني في الصراع. وبداية من 2013 دخل غمار التجارب الأممية، حيث أعيد تعيينه مبعوثا أمميا إلى العراق في فترة الأمين العام السابق بان كي مون، ثم مبعوثا مرة أخرى إلى الأراضي المحتلة في 2015، أين كانت له زيارات إلى غزة التي وجه منها خطابا إلى العالم بصعوبة الأوضاع فيها.
المبعوث الجديد إلى ليبيا يأتي من تخصص جامعي في دراسة الحرب والأزمات من لندن، وعلى هذا الأساس يحظى بأفضلية في مناطق الأزمات، ومن هنا أيضا كان اختياره من طرف غوتيريش ليكون خلفا لستيفاني ويليامز، أو إجرائيا سيكون خلفا للبناني غسان سلامة، باعتبار أن الأولى كانت تعمل بالإنابة بعد استقالة الدبلوماسي اللبناني الذي غادر بنوع من الاستسلام رغم أنه صاحب الفترة الأطول على رأس الملف، وصاحب الدراية الأكبر بالواقع الليبي باعتباره يأتي من بيئة عربية غير بعيدة عن الحالة الليبية في خلافاتها وصراعاتها.
بعد التجارب السابقة في البعثات الأممية، بات من الواضح أن الأزمة في ليبيا على درجة كبيرة من التعقيد. رغم الآمال والكبيرة التي عقدت في مرات عديدة حول الوصول إلى حلول دائمة، لكن الخلافات الداخلية كانت عميقة، وليست بالسهولة التي يتصوّرها البعض. وبعد حوالي عشر سنوات من الحرب المجانية ورغم التقدّم الذي يحصل في بعض المراحل، لكن مناخ عدم الثقة، والتدخلات الخارجية، وعدم إشراك كل الطيف السياسي والاجتماعي الليبي، مازالت تبقي الأزمة عند مساراتها الأولى، في انتظار ما ستسفر عنه نتائج الاجتماعات الأخيرة.
الحديث عن مستقبل العملية السياسية بتفاؤل كبير في ليبيا مازال سابقا لأوانه، ولا يمكن الاستبشار كثيرا بالدور الذي سيلعبه المبعوث البلغاري. فالملفات المطوحة أمامه كثيرة، والخلافات عميقة وتحتاج فهما كبيرا لتخفيفها ومن شخصية تكون لها القدرة على تقريب المختلفين. بالنسبة إلى ملادينوف هذه المرة، ربما الأمور تسير بطبيعتها نحو مرحلة جديدة، بعد التغيير الكبير الذي حصل بعد وقف إطلاق النار في أغسطس الماضي، لكن الأهم من كل ذلك هي الخيارات الداخلية لأنها الوحيدة القادرة على تجاوز العقبات السابقة، بعيدا عن أي أدوار خارجية بما فيها دور البعثة الأممية، التي كانت في الكثير من الأحيان من أسباب التشنج، خاصة في عدم قدرتها على تحميل المسؤوليات وانخراطها في خيارات دولية ليست بالضرورة ناجعة.
ومن خلال التحركات الأخيرة في كل من برلين وجنيف والمغرب وتونس، يبدو أن المبعوث الجديد سيكون في وضعية أفضل مقارنة بكل سابقيه، فهو ييبدأ مهمته وقطار الحوارات يسير في أكثر من مكان، والتفاهمات في الكثير من النقاط بلغت أشواطا هامة، وحتى الحرب أصبحت مستبعدة، في ظل قناعة لدى كل الأطراف أنها لم تؤت أي نتيجة سوى مزيد من إراقة دماء الليبيين، بما يعني استسلاما لدى الجميع حتى دون رغبتهم، في التخلي عن فكرة الحسم العسكري، الذي كان في الجزء الأكبر منه خاضعا لتدخلات خارجية لا مصلحة للشعب الليبي فيها، وكانت البعثات الأممية السابقة مقصّرة في إيقافها.
سيبدأ ملادينوف مهمته برؤية أصبحت واضحة وبتوجهات عامة نحو توحيد مؤسسات الدولة، فقط الدور الذي سيلعبه إن لم تنجح فيه ستيفاني وليامز قبل مغادرتها، هو إقناع الأطراف الليبية بهيكلة المؤسسات السياسية الرسمية والأشخاص الذين سيكونون على رأسها بالإضافة إلى ضمان ديمومة إنتاج النفط، بما هو الحصن الاقتصادي الوحيد للبلاد، وهذا يقف على الخبرة في التعامل مع الأزمات، وعلى تمشٍّ منهجي للحل يُنهي سنوات الصراع، ليتجه الليبيون، الذين يحتاجون بالأساس إلى تغيير واقع لا تغيير أشخاص، نحو إعمار وبناء دولتهم التي أثرت فيها سنوات الحروب، والمؤكد أن فيها من الإمكانيات ما يجعلها قادرة على النهوض دون الحاجة لأي أطراف دولية بات واضحا أن أغلبها لم يكن رحيما مع الشعب الليبي.