عندما أعلن في باريس في شهر مايو الماضي بحضور مختلف الأطراف الليبية المتنازعة عن ضرورة إجراء الانتخابات قبل نهاية العام 2018، كانت أغلبية المتابعين للواقع في البلاد تؤكد استحالة المسألة بالنظر إلى عدة ظروف سياسية وأمنية لا يمكن معها الحديث عن أي تطور إيجابي، وزاد من تعقيدها ما شهدته العاصمة طرابلس من أحداث مأساوية منذ أغسطس أكدت عمق الأزمة التي تعانيها ليبيا، لا يمكن معها الحديث عن انتخابات أصبح معروفا لدى الجميع أنها رغبة خارجية أكثر منها فهما لواقع البلاد.
بعد لقاء باريس أواخر مايو الماضي، تكررت التصريحات حول ضرورة إجراء الانتخابات في ليبيا للخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي وما أعقبته من أحداث تسببت في اندلاع حرب أهلية مازال الليبيون يعانون تبعاتها إلى اليوم من فوضى أمنية وانقسام سياسي وانهيار اقتصادي وغيرها من الإشكاليات التي لا تعرف لها حلول إلى اليوم. حيث أجمع الفاعلون الدوليون أنه لا إمكانية لتحريك العملية السياسية خارج إطار السلمية التي تتحقق عبر الانتخابات. مشيرين إلى أن الاستقرار السياسي هو الضامن لمواجهة التهديدات الإرهابية التي أثرت على البلاد خلال سنوات "الثورة".
من بين التصريحات وأهمها ما قاله المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة في لقاء من عدد من المنظمات في مدينة مصراتة، إن الانتخابات الليبية ستجرى قبل نهاية العام 2018، مهما كانت الظروف، فيما يفهم منه إخضاع الليبيين للأمر الواقع حتى وإن كانت الظروف غير ملائمة لذلك، حيث أكد سلامة في نوفمبر 2017 أن "خطة عمل الأمم المتحدة تهدف إلى أن تتوافق الأطراف الليبية على حكومة تدير شؤون البلاد حتى إجراء الانتخابات، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المتفاقمة في ليبيا. وحتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنالسلطة التنفيذية، ستجرى الانتخابات في عام 2018". وهو نفس الموقف الفرنسي المعلن مؤخرا من المتحدثة باسم وزارة الخارجية الفرنسية، أغنيس فون دير مول، بأن "فرنسا ستواصل دعم جهود السلطات الليبية والأمم المتحدة، هي وشركاؤها؛ لضمان استمرارية العملية السياسية وخاصة إجراء الانتخابات بنهاية العام".
بعد تلك المفاوضات بدأت عديد المواقع تتحدّث عن مرحلة ما بعد الانتخابات والمخرجات التي يمكن أن تفرزها سواء من ناحية الحلول أو من ناحية الإشكاليات المتوقعة. وفي الواقع أن إجراء الانتخابات لم يكن هدفا للأطراف الخارجية فحسب بل هناك رغبة حقيقية حتى من طرف الشعب الليبي الذي أرهقته سنوات الحرب الطويلة، لكن الفرق أن الليبيين ينتظرون من أجل إخراج فعلي للبلاد من أزمتها وما يمكن أن يعقبها من انفراجة على كل المستويات في حين أن الأطراف الخارجية ومن بينها البعثة الأممية يريدون التسريع بقرار يمكن أن يكون تعسفيا أكثر منه حلا مهما كانت سلطتها على الأطراف المتنازعة على الأرض.
يشار إلى أن الإيطاليين كانوا عكس جميع الأطراف الخارجية لديهم رؤيتهم الخاصة حول الملف من بينها موقفهم من الانتخابات التي يرفضون إجراءها في الوقت الذي تتحدث عنه البعثة الأممية. إيطاليا بالتأكيد لها منطقها الخاص الموجه نحو الاقتصاد بالأساس في منافسة واضحة مع جارتها فرنسا لكن الحجج التي تستند إليها في رفض إجراء الانتخابات هي حجج واقعية تأخذ بعين الاعتبار العديد من الظروف الأمنية بالأساس.
في تلك الفترة أصبح الحديث عن استعدادات حثيثة من المفوضية العليا للانتخابات الليبية التي انطلقت في عمليات التسجيل و"قطعت شوطا كبيرا في الإعداد لهذا الحدث، حيث قامت بتركيز عدد من مراكز الانتخاب في عدة مدن ليبية، كما بدأت عملية تسجيل الناخبين منذ أسبوعين، وأعلنت عدة دول غربية رغبة ملحة في ضرورة إجراء الانتخابات، وقامت بتقديم دعم مالي للعملية الانتخابية المقبلة". كما بدأ الحديث عن الشخصيات التي يمكن أن تترشح لذلك الاستحقاق وما الدور الذي يمكن أن تلعبه في مستقبل ليبيا. بل تم التسويق أيضا إلى أن العملية قد تعيد أطرافا فاعلة في نظام القذافي إلى الواجهة. لكن الواقع بعد ذلك أثبت أن ما تم العمل عليه هو مجرد قفزة متسرعة بعيدة عن واقع البلاد المنقسم.
في تصريح لموقع سبوتنيك الروسي في يونيو الماضي عدد المحلل السياسي الليبي سعد مفتاح العكر مجموعة أسباب تعطل إجراء الانتخابات معتبرا أن تعامل القوى الغربية مع الانتخابات كان "بوصفها هدفا وليس وسيلة لخلق الشرعية"، مشيرا إلى "أن ليبيا شهدت انتخابات المؤتمر الوطني الليبي في 7 يوليو/تموز 2012، وبعدها انتخابات مجلس النواب عام 2014، غير أن تلك الانتخابات لم تعزز سوى للانقسام و الفرقة، ولم تساهم في وجود مؤسسات تتمتع بمصداقية من جميع الأطراف والقوى السياسية".
العكر أشار في ذلك التصريح إلى أن حالة الانقسام تمنع إجراء أي عملية سياسية في المستقبل القريب، حيث تعيش المؤسسات الرئيسية في الدولة تحت قيادات مزدوجة كل واحدة منها لها ولاؤها لطرف معيّن وعدم وجود أفق لتوحيدها.
غسان سلامة المهندس الرئيسي لمشروع الانتخابات مدعوما من فرنسا وقوى أخرى، وجد نفسه في أغسطس الماضي، متراجعا عن كل ما قاله في السابق، بعد أن عاشت العاصمة طرابلس أحداثا دموية أثبت أن سلطة المليشيات أقوى من أي سلطة أخرى. حيث أدت الأحداث إلى مقتل عشرات الليبيين وجرح المئات بالإضافة إلى بث حالة من الرعب في صفوف المواطنين. ففي تصريح له لوكالة فرانس براس خلال تقديم إحاطته في مقر الأمم المتحدة قال الدبلوماسي اللبناني نهاية سبتمبر الماضي إنه "لا زال هناك الكثير مما يتعين القيام به. قد لا نتمكن من احترام تاريخ 10 كانون الأول"، مشيرا إلى أن الأوضاع السياسية والأمنية قد تبعد الانتخابات إلى أكثر من ثلاثة أو أربعة أشهر.