لم تكن المنطقة العربيّة خارج سياق التغيير الذي عاشته أوروبا والعالم، في نهاية القرن التاسع عشر. ربّما لم تكن الظروف أو عملية الإصلاح نفسها، لكن في كل الحالات كانت هناك محاولات حالمة بمشروع نهضوي عربي يخرج المنطقة من حالة التخلّف التي تعيشها على كل المستويات، قادها عدد من المصلحين الذين زروا أوروبا وأساسا فرنسا، واطلعوا فيها على تأثيرات الثورة على البنى الاجتماعية والسياسية والثقافيّة.
تونس ومصر حالتان متشابهتان في هذا الإطار، حيث برزت في البلدين طبقة مثقفين ترى أن هذا الشرق لا يمكن أن ينهض دون ثورة حقيقية على مكبّلات الحضارة، وقد كتبت في ذلك مؤلفات اشتهرت في وقتها، رغم أن الحالة شهدت ردّة بعد دخول هذين البلدين مرحلة الاستعمار المباشر التي عمّقت حالة التخلّف. في تونس برزت أسماء مثل خير الدين أحد أعمدة الإصلاح والتحديث وفي مصر برز اسم رفاعة الطهطاوي الذي حمل بعد عودته من باريس، مشروع النهضة منذ الثلث الأول من القرن التاسع عشر، والذي كانت تونس محطته الأولى في رحلة العودة إلى بلاده لتأثره بتجربة مصلحيها ورغبته في التعرّف على المجتمع التونسي بشكل أقرب.
الروايات حول حياة رفاعة الطهطاوي رائد النهضة الفكرية المصرية في نهاية القرن التاسع عشر، كثيرة. كلها تحدّثت عن حياته من لحظة الولادة والنشأة الأولى في صعيد مصر، إلى سنواته القليلة في الأزهر والإمامة، ثم إلى مساره "الثوري" في باريس أين تغيرت رؤيته لبلده مصر وللشرق الإسلامي بصفة عامّة وأين اكتشف الفارق الكبير بين ما بلغته أوروبا وما يعيشه المسلمون من تأخّر عن الحضارة.
لكن هناك مرحلة هامّة في حياة رفاعة الطهطاوي غائبة عن العديد من الدارسين لسيرته، وهي علاقته بتونس البلد المنفتح جغرافيا نحو أوروبا والذي كان محطته الأولى في رحلة العودة من باريس إلى مصر وبداية مشروعه الإصلاحي، وهي عودة ليست "من المكان فحسب ... بل من رحلة الزمان أين اجتاز استكشاف الحداثة".
في حديثه عن علاقة الطهطاوي بتونس يقول المترجم المصري "أنور لوقا"، في كتابه "عودة رفاعة الطهطاوي" إن رائد النهضة المصريّة "يعود عبر طريق تونس –ولا غرابة في إيثاره هذا الاتجاه"- فقد احتفى به التونسيون وتلقّف مصلحوهم كتابه التأسيسي 'تلخيص الإبريز في تلخيص باريز". وأضاف لوقا أنه الطهطاوي كان معجبا ببعض المصلحين التونسيين، وكان يقرأ عنهم قبل حتى أن يقرأوا عنه، حيث كان يستشهد بكتاباتهم في مشروعه النهضوي. وذكر أن "معرفة الطهطاوي بعلماء تونس ترجع إلى فترة مبكّرة من تكوينه العقلي".
الكاتب التونسي منجي الشملي الذي قدّم الكتاب بدوره يعود إلى علاقة الطهطاوي بتونس، مصيرا إلى أن الأخير "أحب موطنه مصر حب المفتون بالحبيب... وأحب تونس حب المعجب بمفكّريها وعلمائها"، لذلك اختار العودة عن طريقها، في هدف من الواضح أنه استكشافي لبلد عرف بريادته في الإصلاح الاجتماعي، وربما حتى كفضول للتعرّف عن تأثير تلك المشاريع الإصلاحية على البنى الاجتماعية والسياسية والثقافيّة.
ويشير كتاب "عودة رفاعة الطّهطاوي"، إلى أن المصلح المصري وعند نزوله في باريس، ذكر مواقف أعلام تونسيين من الزيتونة، في علاقة بالإجراءات الصحيّة الفرنسية بحق البعثات القادمة من الشرق، حيث أشاد بالجدل الموجود في تونس بين مشايخ الزيتونة في علاقة بذلك الإجراء الذي اعتبره خطوة إيجابية في حرية الرأي.
ارتبط فكر الطهطاوي الإصلاحي بمشروع مماثل لما سار فيه التونسي خير الدّين. يقول "لوقا" إن صورة الرجلين اقترنت في أذهان مؤرّخي العالم العربي الحديث باعتبارهما يشتركان في تبني فكرة الثورة داخل المنظومة الإسلاميّة، وحتى في مستوى الرؤية السياسية دستوريا ونيابيا، الفارق أن الثاني كان جزءا من السياسة التونسية إبان الفترة العثمانية والأولى كان همه فكريا إصلاحيا خارج الممارسة السياسيّة.
الكتاب يعود أيضا إلى استشهاد الرجلين ببعضهما، حيث يشير إلى استشهاد خير الدّين التونسي بالطهطاوي في كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" واستشهاد الثاني بخير الدين في كتاب "مناهج الألباب"، وهما عن إصلاح المجتمَع وتنويره، وعن التمدّن وضرورة إصلاح بعض الموروثات القديمة، وهي أفكار شاركهما فيها المصلح التونسي أحمد بن أبي الضياف في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" الذي يحمل أيضا رؤية سياسية متطوّرة في وقتها عبر الدّعوة لتقييد الحكم المطلق في تونس بالشرع، وإلى تطبيق الإصلاحات ووضع حد للحكم المطلق ولظلم البايات وعسف عمالهم.كانت تونس إذن محطة الطهطاوي في رحلة العودة إلى مصر. هي كما قال كاتب الكتاب ليست رحلة في المكان بل هي رحلة الزمان الذي فهم فيه فوارق الحضارة بين غرب تطوّر في مستويات عدة وبين شرق مازال يعيش على مظاهر التخلّف والجذب إلى الوراء.