نشر رئيس المؤسسة الليبية للإعلام الكاتب الصحفي محمد بعيو،تدوينة على صفحته بموقع "فيسبوك"،علّق فيها على أزمة البلاد السياسية،ودور السياسيين في تازيم الوضع مشيرا الى دور المثقفين في بناء المجتمع.

وهذا نص التدوينة بالكامل:

قبل أن يحجب لــيـبـيــا الدخانُ والغبار عن أعين النهار..

نحو صياغة سردية ليبية ترسخ الوجود وتقاوم العدم.

السياسي والساعي إلى السلطة {والسلطة طموح مشروع إذا كان للساعي إليها مشروع}، برنامجه أن يحكم لينفذ برنامجه أو مشروعه - هذا إذا كان لديه برنامج واضح ومشروع حقيقي وليس مجرد أوهام وخدع يطلقها أفّاق كذاب يركب غفلة الجموع حتى إذا وصل حيث يريد انتهى الموضوع وظهر كذب البرنامج وزيف المشروع.

أما المثقف فإن مشروعه الوحيد أن يحاول نشر الوعي ومنع الغيبوبة، وأن يقول كلمته ولا ينتظر أن تُزهر أو تثمر سريعاً، فلربما وهذا هو الغالب سيرحل ولن يعيش حتى يرى كلمته أينعت وأزهرت وأثمرت، فأديم العقول أبطأ كثيراً في إنبات أشجار الوعي، من أديم الحقول في إنبات الأثمار والغلال، لكن نباته يبقى وغراسه لا تزول.

لهذا فإن صاحب الوعي والرأي الذي منحه الله محنة الكلمة وامتحانها العسير، ثم يصمت عن قولها أو يتقاعس عن حمل أمانتها، هو خائن لِذات الحق ولكينونة الحقيقة، ويالها من خيانة لا قانون يسميها ولا عقوبة تكفيها.

ما مِن حضارة تأسست وما مِن وجودٍ ترسّخ وما من قضيةٍ بقيت، إلاّ كانت الـسـرديـة أساس وجودها عبر الحقب والأزمنة، وسر بقائها مع تعاقب الأجيال، لكن السرديات ليست ضروب أحلام ولا خيالات أوهام، رغم أنها وهذا من خصائصها ولوازمها ليست وصفاً محايداً للواقع ولا رصّاً جامداً للوقائع، لكنها خليط دقيق ومتجانس بين الأسطورة والحقيقة، وما من شعب أو أُمة أو حتى فرد أسس أسطورته وسعى فيها ودعا لها وتمسك بها، إلاّ كان الزمن كفيلاً بجعل الأُسطورة واقعاً تراه البصائر حتى إن لم تشاهده الأبصار، ويتكفل باستمرار التكريس والترسيخ وربما حتى التقديس التلاميذ والحواريون والأتباع والأنصار.

ما أحوجنا في لــيـبـيــا التي تحاصرها النار ويغلفها الدخان ويخفيها الغبار عن عيون النهار، إلى صياغة وتأسيس سردية وجودية متماسكة الأركان راسخة البنيان، قوامها الحقائق الكبرى التي يعرفها الراسخون في عِلم هذي البلاد التي أثبتت الحفريات والمحثوثات والنيازك والمومياوات أنها من أقدم مواطن الإنسان منذ كان بسيطاً بدائيا يمشي كالأنعام جِثيّا حتى اعتدل بفضل الخالق واكتمل بشراً سويّا.

لــيـبـيــا الوجود المعمور بالإنسان القديم جداً قبل كل الحضارات المعروفة والموصوفة، فلا طرابلس الجغرافيا والحياة {ودعك من التسميات} أسسها الرومان ولا الفينيقيون ولا الوندال، ولا برقة أنشأها الإغريق، ولا فزان أوجدها الزنوج، فكل من أتى وحضر إلى هذا البلاد وجد فيها أقواماً يعيشيون ويتفاعلون ويتدافعون ولا يستسلمون بالقوة لأية قوة لكنهم {وهذه آفة الليبيين منذ الأزل وربما إلى الأبد} أنهم يُخدعون فينخدعون فمعسول القول أقوى من مفعول السحر على العقول، والأخذ باللين هو ما يجعل الليبي يلين وربما يستكين ولكن إلى حين، فالويل حاق عبر العصور وسوف يُحيق أبد الدهور بكل واهم مغرور ما كاد يطمئن غافلاً أنها هانت واستكانت حتى فارت وثارت فمزقت شراعه وأغرقت قلاعه. 

لا وجود معروف وموصوف في كل لــيـبـيــا وعبر كل تاريخها بقي واستقر واستمر إلاّ الإسلام العظيم منذ نحو 14 قرن، ذلك أن الفاتحين الأوائل بقيادة الصحابي عمرو بن العاص لم يكونوا قُساةً ولا بُغاةً ولا عُتاة، بل كانوا أئمةً ودعاة، رغم أن سيوفهم ماضية وخيولهم عادية، لكنهم لم يجدوا حاجة إلى القوة والقسوة فأهل هذي البلاد من برقة إلى طرابلس كانوا كارهين للبيزنطيين والرومان، وكانت فزان وحاضرتها آنذاك مدينة زويلة مستعدة لاستقبال هؤلاء القادمين على بساط الرحمة وأفياء اليقين، فما انقضى من الزمن حولين حتى كانت كل لــيـبـيــا ببرقتها وطرابلسها وفزانها حاضنةً للإسلام ومنزلاً للمسلمين الذين جاؤها سُراةً فاتحين فأنزلتهم ضيوفاً آمنين، فأقبلوا إليها واندمجوا فيها أصهارً وأرحاماً كابراً عن كابرٍ وجيلاً بعد جيل، ليكون لهذا البلاد القديمة هوية جديدة صاغها الدين وآلت من السابقين ميراثاً للاحقين إلى يوم الدين.

هذا أول السردية وبابها ومدخلها، والسرد متواصل حتى تكتمل الرواية، ويعرف الليبيون كيف يحفظون هذا الكنز السرمدي، الذي هو وطنهم البديع، الذي كان للأولين اختياراً فصاراً لنا نحن الآخرين ولمن سيأتي بعدنا من القادمين قدراً، لا خروج عليه ولا تفريط فيه. 

ولتبق لــيـبـيــا حتى زوال الزمن.