كما تعودت بين الحين والحين، أقف عند الأيام العالمية لكل شهر، وشهر حزيران (يونيو) حافل بثلاثين يوما أو يزيد من الأيام الأممية. ولعل من أهم أيامه أيام ذات بعد أيكولوجي وبيولوجي: فمن اليوم العالمي للدرّاجة الهوائية إلى يوم البيئة، ثم أيام خاصة بالمحيطات، البحارة، مكافحة الصيد العشوائي، سلامة الغذاء، ومكافحة التصحر والجفاف....
ورغم جهود حماة البيئة، مازال هناك مرضى وجهلة يفسدون في الأرض بسبب أنشطتهم الملوثة والمدمرة للطبيعة، وبسبب أقلية جشعة ومتعطشة إلى السلطة والثروة والحرب، وبسبب أغلبية سائبة لا هم لها سوى الاستهلاك الاستعراضي لكل شيء وإفساد كل ما يمكن إفساده. ولولا جهود هؤلاء اللواتي/اللذين جعلوا من النضال البيئي نمط حياتهم لكان هذا الكوكب أكثر تعفنا وتسمما.
ليس محيطنا الفيزيقي وحده عرضة للتلوث، فحتى محيطنا المعنوي، النفسي والثقافي، يعاني من إعلام ملوث بكل أنواع السموم. صحفيون وكتاب ومنظرون لا يحسنون سوى بث الكذب والبهتان ومشاعر الكراهية وثقافة اليأس والخوف والجهل.
الصراع بين الرغبة المدمرة والرغبة المبدعة يزداد حدة، بين من يصنع الجهل وبين من يعمل على تفكيكه وفضحه، وكأن مسافة الصراع تقلصت بين الغباء والذكاء حتى أصبحا وجها لوجه، كل منهما يحدق في وجه الآخر، وكلما أنجز الذكاء شيئا وجده سلاحا في يد الغباء، وباتت البشرية أكثر احتياجا إلى الرؤية الواضحة بعد أن غمر النور زوايا ظلت معتمة وكشف الحجاب عن أشياء لم يكن العقل يجرؤ على مساءلتها، وازداد الزيف ضراوة بعد أن انزاح القناع عن وجهه، وازداد افتراسا بعد أن افتضح أمره.
بين الغباء والذكاء حرب ضروس، منذ القدم كان الغباء ومازال يغلف منتوجاته بغلاف العلم، ويتقنع بقناع العلم، وظل الذكاء يضطر إلى تغيير استراتيجياته، ومنذ أن أدرك الذكاء أن الغباء البشري لا نهائي مثل الكون مازال يبحث عن الطريقة المثلى التي تسمح له باستثمار الغباء لأهداف نبيلة. ربما أدرك أن مصارعة الغباء ليست حلا، وأن الحل يكمن في مهادنته واحتوائه، وإخضاعه إلى الاستشفاء وإبطال مسبباته.
فى کتابه الحادي عشر من اعترافاته، يتأمل القديس أوغستين طبيعة الزمن متسائلاً: "ما الزمن إذن؟ ثم يضيف قائلا: إذا لم يسألني أي شخص عنه، فأنا أعرفه، لكن لو سألني أحد عن معناه، وجدت نفسي لا أعرف عنه شيئا".
ومع أن هذه الحيرة الفلسفية تترجم انشغال الذكاء البشري، إلا أنني لن أقف عندها، بل ما يهمنا هو أن الذكاء البشري تعامل مع الزمن بشكل براغماتي، وقام بتقسيم الفضاء الزمني إلى وحدات بطريقة عبقرية لأهداف عديدة تخدم حاجاته في الحياة، فكانت "الثانية" هي أقصر وحدة زمنية، وكان "القرن" أطولها، وانطلق هذا الذكاء من "اليوم" بوصفه وحدة زمنية جاهزة ليبتكر الأسبوع والشهر والموسم والعام والعقد والقرن، كما قام بتقسيم اليوم إلى وحدات صغرى.
يا لها من عبقرية...
ولأن الزمن يستحيل تخزينه، اعتبرته كل الثقافات أعلى قيمة من الذهب، وحرصت على حسن استغلاله. ويحدث في كثير من الأحيان أن ننفق المال لنربح الوقت إيمانا منا أن خسارة الوقت لا تقدر بثمن. وأبدع العقل البشري أياما جعل منها مناسبات عالمية تفعيلا لقيم الخير والحق والجمال، غير أن الغباء البشري ذو بأس شديد ولا يتردد في إفساد منجزات الذكاء وتحويلها إلى أعباء تثقل كاهل الحياة، بل هذا الغباء له قدرة خارقة في تحويل النعمة إلى نقمة.
في فضائنا المغاربي، يتمتع الغباء بمقام رفيع في المؤسسات المنتجة للمعرفة، ويجد الذكاء صعوبة في بناء هويته التي تسمح له بالتحرر من هذا الغباء المهيمن، وهو غباء محظوظ كونه يتصدّر المشهد بوصفه ذكاء، ومن ثمة ينجح في إنتاج "معرفة غبية" يعرضها في أسواق الاستهلاك على أنها معرفة ذكية عالية الجودة.