ليس بخافٍ على أحد، أنه ومنذ العام 2011 سيطر تآلف ميليشياوي قبلي، جهوي، ايديولوجي على كل مفاصل الدولة الليبية، ومؤسسات السيادية، بما في ذلك دوائر صنع القرار السياسي والاقتصادي والعسكري والأمني. ووظف كل إمكانياتها وقطاعاتها الهامة لخدمة أهدافه ومصالحه ومصالح مشغليه الدوليين. وطوال السنوات الماضية وقفت المليشيات المتحالفة حجر عثرة في وجه كل محاولات المصالحة الوطنية ورأب الصدع بين الليبيين تمهيداً لإعادة الحياة إلى دواليب الدولة وتدشين مسيرة البناء الإعما. ولما وصلت الأمور إلى درجة غير مسبوقة من السوء والخطر وتحالفت تلك المليسشيات مع الجماعات الإرهابية وأرادت أن تحول ليبيا إلى قاعدة للإسلاموية السياسية، وأهدرت أرصدة الليبيين وأفقرتهم. وحينما استعصى الداء على كل الأطباء المدأوين، بما فيهم غسان سلامة وبعثته الأممية، ولأن آخر الدواء الكي، وحتى لا تضيع البلاد كلية ويتشرد ما بقي من العباد، لم يبق أمام الجيش من خيار إلا إطلاق المعركة الكبرى لتحرير ليبيا من الرجس والأنجاس؛ بدءاَ من الحقول النفطية مروراَ بالجنوب ووصولاَ إلى عش الدبابير في العاصمة طرابلس. والهدف الوحيد لهذه العملية هو تحرير العاصمة من قبضة تلك الميليشيات المتغولة التي سيطرت عليها بقوة السلاح، والشروع في تنقية الأجواء وتهيئتها لتدشين عملية سياسية واجتماعية تفضي إلى سلام مجتمعي واستقرار سياسي. إذن عملية الجيش في طرابلس عملية أمنية تستهدف تأمين البلد وبسط الأمن وتأمين الحدود والأجواء. وهي عملية ليست اختيارية، بل مفروضة عليه فرضاً. وهي ليست عملية سياسية على الإطلاق.

ومن ناحية أخرى، فإن القوات المسلحة لا تقاتل طيفاً أو تكويناَ اجتماعياً بعينه. بل تقاتل الخونة والعملاء والإرهابيين المرتبطين بالمشروع الميليشياوي الإسلاموي الإرهابي، بغض النظر عن أصولهم الاجتماعية. والمليشيات وإن كان عمودها الفقري من كتائب تعود لبعض المناطق والمدن، إلا إن عناصرها من كل المدن، وفيها أفراد من كل القبائل. كما أن قادة تلك المليشيات تعود أصولهم إلى كثير من المناطق، شرقاً وغرباً وجنوباً. ففي بناء الميليشيات المؤدلجة والإجرامية، تكون الأولوية للانتماء الفكري والمصلحي، وليس العرقي والاجتماعي. إن من بين أهم الآليات التي استخدمتها المليشيات للحشد والتجنيد، إغداق الأموال الطائلة على المجندين، مما جعل كثير من الشباب يقعون ضحايا لها، ويتبارون في الالتحاق بها، خاصة في المدن التي تتركز فيها الرأسمالية الوطنية مثل مصراته والزاوية. كما كان لاستيلاء العصابات المتسيدة في هذه المدن على أموال الدولة أثر كبير في التعبئة والتجنيد. إذن الموضوع ليس حشداً عرقياً كما يصوره الكثير من إعلاميينا ومحللينا. كما أنه لا يمكن انكار أهمية الدور الذي لعبته التعبئة الأيديولوجية من دور فعال في حشد المقاتلين للميليشيات الإجرامية. ففي بعض المدن تركز النشاط الزندقي ووفد إليها دعاة القاعدة والإخوان الأمر الذي ساهم في غسيل أدمغة الكثير من الشباب ودعاهم للالتحاق بالميليشيات. لكل هذا لا ينبغي لأي منا أن ينجر إلى الزاوية التي يريد العدو حشرنا فيها.      

إذن لماذا يصر الكثير من السياسيين والإعلاميين الذين يدعون لأنفسهم الوطنية، على إظهار هذه المعركة كمأ لو أنها معركة عرقية وإثنية تستهدف استأصال فئة معينة؟ ولماذا يسوقون مسألة أن الحرب ضد الأتراك الليبيين؟ إن الأصوات التي تتبنى هذا النهج إنما تسيء إلى الجيش وإلى المعركة الوطنية التي يخوضها ضد المليشيات الخارجة عن القانون. فالجيش لم يتحدث عن استهداف أقلية تركية أو غير تركية. إنما أعلن صراحة عن ان القتال يستهدف المارقين والخارجين عن سلطة الدولة والقانون من الليبيين. ولذا فإن الغضب من موقف الميليشيات أو الحماس للمعركة الوطنية، لا ينبغي أن يقود الطيف الإعلامي والسياسي المناصر لعمليات القوات المسلحة، للانزلاق إلى هذا المنزلق الخطير والمدمر للنسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية. فإذا كان الجيش يخوض معركة وطنية بامتياز، فإن المعركة الإعلامية والسياسية المصاحبة لعملياته، والتي يفترض أن تدعم موقفه، وتوفر له الغطاء السياسي، هي في مجملها تعمل عكس هذا تماماً، بوعي أو بدونه، بل وتعطي الخصوم ومشغليهم الدوليين الذرائع التي يوظفونها لشرعنة عملياتهم ودعمهم للميليشيات ضد القوات المسلحة. وبالنتيجة، فقد خرج علينا أردوغان وهو يهدد ويتوعد ويدعي أنه يدافع عن مليون ليبي من أصل تركي. فكيف نسمح لثلة أطلقت العنان لألسنتها بالإساءة للعمل الوطني الذي يقوم به الجيش؟ وفي هذا السياق لابد من توضيح بعض النقاط:

أولاً: إن الإدعاء بوجود مليون ليبي من أصل تركي هو إدعاء باطل ولا صحة له. فالشعب الليبي شعب واحد ونسيج اجتماعي واحد، تشكلت هويته عبر فترات التاريخ في بوتقة الجغرافيا. وحتى وإن اختلف الليبيون، وحتى وإن وصلت الخلافات إلى حد الاقتتال البيني للأسف، بفعل التآمر الخارجي، يبقى الليبيون أبناء وطن واحد، وليس لهم من خيار إلا العيش المشترك والتغلب على الخلافات والأنانيات، وتغليب لغة العقل والمصلحة العامة وقطع الطريق على التدخل الأجنبي في بلادنا. وعروبة ليبيا ليست عرقية أو إثنية، على الرعم من أن الأغلبية العظمى في ليببيا من أصول عربية قديمة وحديثة (أي عرب ما قبل الإسلام وعرب ما بعد الإسلام). إلا إنها عروبة بالمعنى الحضاري وترسخت بفعل الدين الإسلامي.

ثانياً، لا يوجد شعب خالص النقاء بالمعنى العرقي والإثني. فالشعوب هي مجتمعات تشكلت بفعل روابط الدم والانتماء المصيري. وتركيا التي يدعي رئيسها التدخل في ليبيا لحماية أقلية تركية، هي نفسها ليست دولة قومية بالمعنى العرقي، إنما تتألف من خليط عرقي متنوع. فالأكراد مثلاً يشكلون 20 بالمائة من السكان. وحوالي 13 بالمائة من أعراق أخرى. وهذا يعني أن ثلث السكان في تركيا ليسوا أتراكاً بالدم. وحتى الـ 70 بالمائة المتبقية التي يفترض أن العرق التركي يشكلها، هي في واقع الأمر تشكلها نسب لا بأس بها من أجناس وأعراق كثيرة، إلا أن هذا الملف لم تفسح الحكومة التركية المجال للخوض فيه رسمياً بسبب حساسيته المفرطة. ولذلك فإن الدستور التركي، لم يعتمد مقاربة إثنية في تعريف الهوية التركية. فالتركي، وفقاً للمادة 66، من الدستور التركي هو "أي شخص مرتبط بالدولة التركية من خلال رابطة المواطنة".

ثالثاً، فإذا كان الأمر هكذا بالنسبة لتركيا، فكيف تسمح لنفسها بالاعلان عن عزمها التدخل لحماية جزء من الليبيين بدعوى كونهم أتراكاً. ألا يعطي هذا الحق للأكراد في سوريا والعراق وإيران لدعم بتي قومهم، أكراد تركيا لنيل الاستقلال أو الحكم الذاتي، وألا يعطي الحق للعرب لفعل الشيء نفسه، خاصة وأن بعض استطلاعات الرأي أظهرت أن 2 في المائة من الأتراك يقولون بأن لغتهم الأم هي العربية. وهذه النسبة لا تمثل إلا جزءاً من الحقيقة. إذ أن العرب يشكلون أكثر من هذا بكثير. هل يرغب أردوغان في فتح هذا الباب الذي لن يكون على الإطلاق في مصلحة الدولة التركية.

رابعاً: ينبغي ألا نحرف المعركة عن هدفها المعلن المتمثل في استرداد البلد من أيدي الميليشيات، وألا نمنح المغرضين الذرائع التي تعود علينا بالأذى. أن المعرك لا تخوضها الجيوش وحسب، لكن تخوضها عقول المفكرين والمثقفين الذين يجب أن يقدموا الأسس الفكرية والثقافية التي تدعم معركة الجيش. معركة العقول لا تقل أهمية عن معركة السلاح. وما يمكن أ يقال في النهاية، أن الظروف التي تجري فيها المعركة الإعلامية والسياسية هي ظروف اشتثنائية ترتبط ارتباطا وثيقاً بالأمن الوطني والمصلحة العليا، ولذلك لابد لها من الانضباط، مثلها مثل المعركة العسكرية في ميادين القتال. وإذا لم يتأتى هذا بشكل ذاتي، فنحن نوجه الدعوة لإعلان الأحكام العرفية ووضع وسائل الإعلام تحت إشراف لجنة مختصة ضماناً لعدم تنحرافها عن المسار الصحيح الذي يخدم المعركة الوطنية التي يقدم فيها الجيش الليبي أكبر التضحيات.