يبدو الانقسام سمة المشهد في ليبيا، فعلى جميع الأصعدة تبدو المؤسسات منقسمة ومنهكة: سلطة تنفيذية برأسين، ومصرف مركزي بمحافظين، والجيش منقسمٌ بين شرق وغرب بلا قيادة موحدّة، والوزارات والإدارات الرسمية نفسها منقسمة ومشتتة، ما جعل المواطن في ليبيا يرزح تحت إنهاك أوضاع اقتصادية وأمنية سيئة للغاية، بسبب هذا الانقسام وضعف المؤسسات واستشراء الفساد وسلطة الميليشيات وغياب سلطة فعلية لحكومة مركزيّة موحّدة وانتعاش كبير للخطاب الجهوي والمناطقي وتعدّد المبادرات الأممية والإقليمية والمحليّة وتداخلها وتراكم فشلها
هذا المشهد يمكن تصويره (بشكل اختزالي جدا وعام) في تنازع سياسي بقطبين مركزيين، خلفهما تتكثّف مجموعة من العناصر المتداخلة، خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي في الشرق، وفائز السراج رئيس حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن اتفاق الصخيرات الذي رعته الأمم المتحدة، غربا في العاصمة طرابلس.
خلف السراج تقف كتل سياسيّة بخلفيات متنوعة، وخلف حفتر تقف كتل أخرى بخلفيات أخرى، وفي الواقع لا يمكن حصر هذه العناصر تحت عنوان واحد، فالدوافع مختلفة للاصطفاف هنا أو هناك، دوافع تختلف وتتنوّع بين الإيديولوجي والجهوي والحسابات السياسية والأمنية والمالية/الاقتصاديّة.
وربّما يبدو مشهد الميليشيات، خاصة في الغرب، حقلا مهما لفهم المشهد الليبي في العمق، حيث ضعف الدّولة وسيطرة السلاح على القرار السياسي، والأطماع الدامية حول المنافع الاقتصادية والاعتمادات المالية وحالة الفوضى وغياب السلطة القوية الفاعلة والمؤثرة، فمشكلة الميليشيات التي تبدو أنها قد حُلّت في الشّرق الليبي عبر الجيش الليبي الذي تشكّل حول قائده خليفة حفتر، وبثمن باهض جدا من الحروب والدمار وسنوات أربع من المواجهات والخسائر، هذه المشكلة مازالت قائمة وبشكل مؤثّر في الغرب الليبي وتمثّل أحد أهم العناصر المؤثرة في فهم الأزمة الليبية.
عنوان آخر للازمة، هو تنازع "الشرعيات" بين الطرفين، فحكومة الوفاق الوطني تستمد شرعيتها من الاعتراف الأممي والدولي بها، في مقابل غياب الشّرعيّة المحليّة حيث لم تحصل على موافقة البرلمان المنعقد في مدينة طبرق إلى حدّ الآن، في حين تذهب هذه "الشّرعيّة المحليّة" إلى الحكومة المؤقتة في الشّرق والتي تتبع لمجلس النواب ولكنها لا تحظى بالاعتراف الدّولي ولا حتى الإقليمي.
ولفهم هذه النّقطة لابدّ من العودة إلى اتفاق الصخيرات ذاته، وبنوده التي أفضت إلى هذا الشّكل السياسي القائم في البلاد، فالاتفاق ينص على أنّ مجلس النواب (البرلمان) المنعقد في مدينة طبرق هو الجسم التشريعي الوحيد في ليبيا (السلطة التشريعيّة)، بينما المجلس الرئاسي المشكّل من عدّة أعضاء بتقسيم مناطقي وإيديولوجي هو الجسم التنفيذي التي يقترح حكومة (وفاق وطني) يجب أن تحظى بمصادفة البرلمان، في حين يضطلع مجلس الدّولة وهو المشكّل من بقايا المؤتمر الوطني السابق، بدور استشاري، بينما بقيت نقطة الجيش والمناصب العسكريّة العليا خلافيّة ومحل تنازع وصراع كبير بين الطرفين في ظل بنود غائمة وغير حاسمة وغير متفق عليها.
وفي حين لم يصادق البرلمان على حكومة السراج (أو حكومة المجلس الرئاسي) المقترحة، وظلت الحكومة المؤقتة التي يترأسها عبد الله من قرنادة شرق البلاد هي الحكومة التي تعمل تحت إشراف البرلمان، في حين لم تعر الدّول الغربيّة والإقليميّة أي أهميّة لهذا "التفصيل" وأعلنت جميعها (بما فيها الأمم المتحدة ذاتها) اعترافها بحكومة السراج ضاربة بعرض الحائط نصوص الاتفاق السياسي ذاته الذي كان يمثّل خلاصة مشاورات ومفاوضات طويلة وشاقة للخروج بالبلاد من أزمتها المستفحلة والتي لا تبدو أنها قد تأثرت أبدًا بهذا الاتفاق.
السراج وحفتر ..مفاتيح الأزمة وملامحها العامة:
إذن، من هنا يمكننا رسم خريطة الخيوط العريضة للأزمة الليبية، صراع نفوذ سياسي وعسكري ومالي وصراع تنازع الشرعيات بين قطبين أوّلها يحوم حول خليفة حفتر القائد العام للجيش الليبي (بتنصيب البرلمان) وآخر يدور حول فائز السرّاج بشرعيته الدّولية القويّة والمحميّة باعتراف كل الفاعلين الدوليين والاقليميين المؤثرين في الساحة الليبية.
هذه الملامح العامة للأزمة الليبية، في ما بعد الصخيرات، يتعامل معها الجميع (دوليا وإقليميا) كمعادلة نهائيّة للأزمة، رغم نسبيّة هذه القراءة التي قد تجد نفسها أمام معضلات كبيرة على الأرض، وأهمها عدم وجود سيطرة واضحة بخرائط دقيقة للطرفين على الأرض، فحتى التماس العسكري بين الجانبين لا يضع لحود نهائية صارمة بين يمكن تحديدا الحديث عن "تخوم" متحوّلة امتدادا وانحسارا للجانبين، كما أنّ كلا الطرفين لا يمسك في يده أوراق نهائية مكتملة الشروط، فخليفة حفتر الذي يسيطر عسكريا (مثلا) على الحقول النفطيّة، لم يتمكن من تحويل عائد الذهب الأسود الليبي إلى مصرف البيضاء المركزي (تابع للحكومة المؤقتة) ولا لمؤسسة النفط التابعة لهذه الحكومة، وكانت ورقة الشرعيّة الدّوليّة أقوى لصالح مركزي طرابلس ومؤسسة النفط في العاصمة غربا، في حين ورغم كل ما تحظى به حكومة السراج من شرعيّة دوليّة غير أنها لا تسيطر عسكريًا الا على مربعات صغيرة جدا في الخارطة الليبية، وحتى في العاصمة طرابلس ذاتها يبدو وضعها قائما على اتفاقات هشة وضعيفة مع ميليشيات مسلحة وغير منظمة.
ومع ذلك يرتاح الجميع لهذه المعادلة، التي تبدو اختزالية بشكل كبير، ولكنها في المقابل قد تكون خطوة مهمة جدا في تعديل الوضع القائم في ليبيا إذا ما أفضت الى اتفاقات صلبة وقابلة للتطبيق.
ومن هذا المنطلق كانت اجتماعات أبو ظبي ومن بعدها اجتماعات باريس وقريبا مؤتمر باليرمو المنتظر برعاية ايطاليّة، ومن هذا المنطلق ذاته يمكننا فهم الرهانات الدوليّة ولعبة الصراع الخارجي حول ليبيا، فمؤتمر باريس الذي خرج باتفاقات نهائية أهمها اجراء انتخابات قبل نهاية العام 2018، قوبل بمعارضة ايطالية صريحة وقوية ومعلنة وحاسمة، ترجمتها في تحركات لاحقة لعقد مؤتمر جديد تحت اشرافها، وتسعى عبره لتحشيد كبير على مختلف الأصعدة المحليّة والدّولية لتستعيد زمام المبادرة في الملف الليبي من يد الوافد الجديد على ساحة الصراع، جارتها فرنسا، التي تبدو الأقرب الى قائد الجيش خليفة حفتر، بينما تبدو اوراق الرهان الإيطالي أقرب للسراج وحكومته ومن خلفهما الإسلاميون ومدينة مصراتة بتأثيرها الهام في المشهد الليبي.