من يستذكر لحظة 17 فبراير في ليبيا، سيعرف دون جهد كبير الاستراتيجيات التي جهّزت لها من طرف بعض القوى الإقليمية والغربية، بهدف الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي، الذي تعتبره تلك القوى خارج سياق رغباتهم وأطماعهم. وعلى رأس تلك القوى دولة قطر التي كانت الاستثناء في علاقة بأحداث 2011، من خلال خروجها في صورة العدو المستعد للقيام بكل شيء من أجل تحقيق هدف كانت هي الوكيل الحصري في تحقيقه خدمة لبعض الأطراف الغربية، التي وجدت في الدوحة أداة طيعة في عملية التدمير عبر أعوانها في التنظيمات الإسلامية. وقد كانت مصراتة إلى فترة قريبة مركزا من مراكز المشروع التدميري القطري بفضل تواجد قوى النفوذ الإخوانية فيها.

لكن المتتبع للواقع الليبي يلاحظ أن السنوات الأخيرة تشهد انحسارا للدور القطري في ظل صعود قوى وطنية تعلن صراحة رفضها لخيارات الدوحة في علاقة بجماعات الإسلام السياسي التي استغلت الأوضاع الأمنية لتمارس نفوذها في عدة ملفات اقتصادية وأمنية. الانحسار القطري بدأ يتوضح تدريجيا منذ العام 2015، بعد أن فهمت القوى الغربية أن التننظيمات الجهادية، التي دعمتها في مرحلة أولى، بدأت تنفلت وتسبب قلقا ليس لليبيا فقط بل أيضا لكامل الإقليم المطل من حيث سواحله على الواجهة الأوروبية.

مصراتة من المدن التي اعتبرت بعد "الثورة" مركزا حصريا للإسلام السياسي المدعوم من الدوحة وأنقرة اللتين ساهمتا ماديا وسياسيا في الهجمة التي شنتها قوات الناتو في ليبيا وساهمت في تخريب كل القطاعات وفتحت البلاد على كل أنواع الفوضى والفساد، لكن نفوذها يتراجع في المدينة بشكل واضح بل إن البعض يشير إلى غياب تام لهذا الدور وحتى قوى الإسلام السياسي الموجودة فيها مازالت تتحصن بدعم غير ثابت بدوره من تركيا.

التراجع القطري في مصراتة يفسره مراقبون أنه ضعف في الرؤية طويلة الأمد، وأن القدرة المادية لم تعد ذات جدوى في مرحلة تعيش فيها المدينة نوعا من الاستقرار الذي مكّن بعض المسؤولين فيها من الإصداح بموقفهم المناهض لقطر من ذلك ما أصدره المجلس البلدي مصراتة في أغسطس 2017، بأن الزيارة التي قامت بها أطراف من البنيان المرصوص لا تلزم المدينة ولا مؤسساتها الرسمية في شيء. وقال المجلس في بيان له "إن الشخصيات والوفود والتي لا تقوم بالتنسيق مع الجهة الشرعية والرسمية بالمدينة وهو المجلس البلدي مصراتة في زياراتها أو اجتماعاتها أو لقاءاتها داخل البلاد أو خارجها، لا تمثل المدينة وأهلها".

ويثبت البيان بوضوح أن العلاقة بين المدينة والدوحة لم تعد كسالف عهده بعد فترة 2011، ما يعني أن موقفا ما أخذ من الدويلة الصغيرة التي اعتقدت في فترة من الفترات أن يدها الطولى ستوضع فوق كل الملفات المتعلقة بليبيا، مستعينة في ذلك بالعلاقة القوية بتنظيم الإخوان المسلمين وعناصرهم النشطة بمختلف العناوين في ليبيا.

في مستوى سياسي أيضا لم يعد للقطريين صوت في علاقة بالملف الليبي من أساسه لا في مصراتة مركز نفوذهم، ولا في ليبيا ككل، فالمؤشرات المستخلصة في السنتين الأخيرتين تؤكّد بما لا يدع مجالا للشك أن الدويلة الخليجية كثيرة الخصوم تفقد حليفا مهما كانت تعتقد أنها ستبقيه رهينة لخياراتها حيث كانت مدينة مصراتة خلال السنوات الخمس الأولى التي أعقبت أحداث 2011، أداة طيعة لقطر عبر جناحها الإخواني الذي مازال يصارع من أجل الإبقاء على نفوذه. والحقيقة أن الدوحة ليست وحدها في ذلك السياق باعتبار أن تركيا أيضا لها موطئ قدم في المدينة التي تعتبر مدينة استثناء في المستويين الاقتصادي والسياسي وحتى التاريخي.

لكن أهم ملف يؤكّد التراجع في الدور القطري في مصراتة كان عسكريا من خلال مواقف أشبه بالانقلاب على خيارات قديمة كانت تصب في مصلحة الدوحة وهي الصادرة عن الناطق باسم "البنيان المرصوص"، العميد محمد الغصري، الذي بدأت مواقفه تتغيّر من الجيش الليبي وقيادته منذ العام 2017، في قلب المعركة مع تنظيم داعش حيث قال في تصريحات إعلامية "نطالب الجيش الليبي في الشرق بالتعاون معنا، ومدنا بكل المعلومات عن تلك التنظيمات، للقضاء عليها بما فيه صالح كل الليبيين، في جميع أنحاء المدن الليبية"، وهو مختلف تماما عمّا كان يفكّر به الغصري نفسه في علاقة بالجيش وقيادته.

الغصري حاول نفي مواقفه الإيجابية من الجيش الليبي في لقاءات إعلامية بعد ذلك، لكن حوارات القاهرة حول توحيد المؤسسة العسكرية، أعادت حقيقة رضاه عن توحيد المؤسسة العسكرية الليبية حيث أعلن في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية في 19 أكتوبر الماضي أن توحيد الجيش "مطلب كل عسكري في البلاد... وندعو الله أن تكلل الجهود الجارية في القاهرة بالنجاح". وهو آخر تصريحات الرجل المعروف بقربه من الدوحة، وهو ما يرجّح برودا في العلاقة معها أو اقتناعا أن دورها بدأ في الانحسار لفائدة قوى معادية لمشروع الإسلام السياسي، لكن ذلك لا يعني أن قطر قد خسرت موقعها نهائيا في ليبيا لأن الواقع على الأرض مازال يمنح للجماعات الإسلامية فرصة فرض الذات خاصة بامتلاكهم لخيارين رئيسيين ومحددين وهما المال والسلاح، بالإضافة إلى الدعم التركي.