القضاء في المنظور الديني لدى المسلمين هو جزء أساس من الاستخلاف الذي دعا إليه المولى عزّ وجل، من أجل الحق والعدل بين البشرية. وعلى ذلك الأساس كانت له دائما الهيبة الخاصة والقيمة الاجتماعية المرموقة، والحصانة الذاتية من مؤسسات الحكم إيمانا بأن القاضي هو المستأمن على رفع الظلم وإنصاف المستحقين ولذلك أيضا تكونت ما يعرف اليوم بالمنظومات القضائية، وجاءت في زمن انتشرت فيه كل أنواع القضايا والجرائم وتضاعفت مسؤولية القاضي بل أصبح مؤمنا على سيرة دول بأكملها.

في منطقتنا العربية وخلال تاريخها الحديث تشكلت المنظومات القضائية بشكل تدريجي ضمن سياقات مختلفة خلال الفترة الاستعمارية إلى مراحل الاستقلال، فيها من أعاد تنظيم نفسه بعد تجارب الاستعمار التي كانت إلى حد ما مؤثرة في هندسة تلك المنظومات التي بقيت محل تجاذب بين الناس حول نجاعتها وارتباطها الدائم بما هو سياسي سواء كغلاف محصّن من التأثيرات أو كخاضع خضوعا تاما يجعلها محل انتقاد، وفيها من أبقى على منظومات تقليدية عاجزة عن مسايرة التحولات المتسارعة في العالم.

في ليبيا الحديثة عرف القضاء مراحل مختلفة باختلاف أنظمة الحكم التي سادت البلاد منذ استقلال البلاد العام 1951 وحتى قبلها حيث تشير بعض المصادر إلى أن ليبيا كانت من الدول الرائدة في إصدار مجلة تشريعية ضابطة لعمل الأطر القانونية ومن بينها القضاء، بل إنها كانت مرجعا لدول أخرى رأت في القضاء الليبي مثالا يحتذي في مراحل التأسيس.

المعروف عن المنظومة القانونية الليبية هو انضباطها للشريعة الإسلامية كمصدر أساسي للتشريعات، وهذا لم يكن رهين فترة حكم معينة، بل كان قرار كل أنظمة الحكم المتعاقبة بما فيها أيام الاستعمار الإيطالي، وهذا مفهوم في تلك الفترة باعتبار الطبيعة المحافظة للمجتمع وأيضا لأن الحاكم أيضا يجد مشروعيته في الاعتماد على كل ما هو ديني.

المرحلة الأولى في تأسيس القضاء الليبي الحديث كانت بشكل رسمي بعد الاستقلال، ما قبله لا يمكن اعتباره ليبيا بالنظر إلى الارتهان التام للاستعمار وشروطه وآليات تحكمه في الحكام. فبعد الاستقلال كانت الدعوات واضحة لتأسيس قضاء ليبي تعهد له مختلف القضايا ويفتح المحاكم أمام الناس لفض النزاراعات.

وقد بنيت مؤسساته على شكل متزامن مع سلّم المحاكم في أغلب الدول الغربية آنذات باعتبارها وجدت آليات متطورة على شكل هرمي ينظم التعامل مع القضايا ويمنح نوعا من الاستقلالية بين مختلف الهياكل وقد تم الفصل فيها وفقا للشكل الهرمي التالي.

  • المحكمة العليا: قمة الهيكل القضائي، ومقرها طرابلس. تتألف من رئيس وعدد من المستشارين يتم اختيارهم من قبل مؤتمر الشـعب العام. وتتألف من خمسة غرف: غرفة للقضايا المدنية والتجارية، وغرفة للجنايات، وغرفة للإدارة، وغرفة دستورية، وغرفة شرعية.
  • محاكم الاستئناف: محاكم الدرجة الثانية بالنسبة للطعون التي ترفع ضد أحكام المحاكم الابتدائية الصادرة عنها كمحكمة أول درجة. الأحكام الصادرة عنها قابلة للطعن فيها بالنقض أمام المحكمة العليا.
  • المحاكم الابتدائية: تعتبر من محاكم القانون العام. وهي محكمة ثاني درجة للنظر في الأحكام الصادرة عن المحاكم الجزئية.
  • المحاكم الجزئية: هي محاكم الدرجة الأولى، وتختص بالفصل في المسائل المدنية، والتجارية، والأحوال الشخصية، كما تختص بالنظر في الجنح والمخالفات. مقرها المدن الصغيرة.

وقد عرفت تلك المرحلة مجموعة من الإصلاحات التي فرضتها المرحلة وكانت بشكل متدرّج عبر سنوات الحكم وقد رفعت فيها دائما شعارات القضاء المستقل رغم ما لها من قصور في وجود أنظمة حكم "رجعية"، لكن المؤكّد أنها كانت بِنى تقليدية غير منسجمة حتى مع محيطها شرقا وغربا بالأساس.

المرحلة الثانية هي مرحلة الثورة وحكم العقيد معمر القذافي، وصعود شكل جديد من الحكم مختلف تماما عن سابقه ومعلنا عن نفسه كنظام يستمد وجوده من طموحات الجماهير وعلى ضوء ذلك ستتشكل دولة جديدة لاغية لكل ما هو ملكي بكل ما يحتويه، وتغييره بشكل جديد يعتمد على النظام الجمهوري المعتمد في شعاراته على إرادة الشعب.

في تلك الفترة حافظ النظام على البنية العامة للقضاء الليبي القائمة على النظام الرباعي للمحاكم، بما يضمن درجات التقاضي التي تحترم المعنيين بها. لكن منذ منتصف السبعينات بدأت تظهر بعض التغييرات من خلال الجمع بين ما هو مدني وماهو شرعي بشكل موحد، الأمر الذي جوبه بانتقادات واسعة من الأوساط المحافظة بالإضافة إلى الانتقادات حول نوايا النظام في تلك الفترة التدخل في أغلب المؤسسات، كان بعضها منطقيا وبعضها كان انخراطا في موجة التشويه التي بدأت تلاحق الرجل بسبب سياساته الخارجية المعادية للهيمنة الغربية.

ومن بين الخطوات التي بقيت واضحة في تركيبة القضاء الليبي أيام حكم العقيد معمّر القذافي هي إلغاء منصب النائب العام في إطار عملية تعديلية لأحكام القضاء واستحداث هياكل تشريعية جديدة، وهو ما اعتبر تدخلا في صلاحياته، بالإضافة إلى التغييرات التي شملت ألسنة الدفاع الخاص عبر استحداث إدارة للمحاماة الشعبية، وهي قرارات رأى فيها المنتقدون تدخلا في المسائل القانونية. لكن بعض الأحداث حول إبطال قرارات من طرف متنفذين في الدولة يؤكّد أن القضاء أيام القذافي كان يحافظ على هامش من الاستقلالية لم تستطع "الدولة الرسمية" الاقتراب منها.

أما المرحلة الثالثة والأخيرة من تاريخ القضاء الليبي، فهي فترة ما بعد 2011، التي عرفت الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي بتدخل غربي، وصعود قوى جديدة لم تكن قادرة على فعل التغيير الحقيقي فأدخلت البلاد في حالة من الفوضى مازالت تعاني تبعاتها إلى اليوم.

ما بعد أحداث 2011، لا يمكن الحديث عن منظومة قضائية. انهيار أغلب مؤسسات الدولة خلق نوعا من الانفلات الذي لا يمكن معه بناء مشاريع قانونية فعلية. والدليل على ذلك االانفلات هو دخول بعض الأطراف في تصفية الحسابات والانتقام دون الانضباط إلى السلطة القضائية باعتبارها المحدد في نظام العقوبات. وحادثة مقتل العقيد القذافي نفسها كانت مثالا حيا على صعود قانون الغاب غير المنضبط لأي سلطة سوى منطق الهمجية والفوضى وغياب القانون.

وعوض أن تقدم "ليبيا الجديدة" المثال على سلطة القانون التي كانت تتهم النظام السابق بتغييبها، صارت صورة سيئة للدولة تغيب فيها أبسط شروط المحاكمات العادلة وخاضعة في غالبها لرغبة المليشيات المسلحة، وكانت لسنوات ساحة للاتنقام من رموز نظام القذافي بالإهانة والابتزاز والحكم الجائر آخره الذي صدر في طرابلس منتصف أغسطس الماضي بحق 45 متهما من موالين للنظام في 2011، في خطوة لقيت تنديدا من عديد الأطراف داخل ليبيا وخارجها.