على الرغم من أن معظم مناطق أفريقيا لاتزال تواجه مخاطر الفقر والتخلف والصراعات المسلحة والفساد السياسي وعدم فعالية الاتحاد الأفريقي فقد ذهب فريق من الكتاب، بنظرة لاتخلو من تفاؤل مفرط، إلى القول بأن القرن الواحد والعشرين هو قرن أفريقيا، لم يكن غريباً أن يروج الاعلام الغربي وحتى المحلي لمقولة الصعود الأفريقي وانضمام جنوب أفريقيا لنادي" البريكس" بحسبانها أحد الاقتصادات الكبرى الصاعدة على مستوى العالم.

ويبدو أن مسألة الصعود الأفريقي تلك تدعمها بعض التصورات والوقائع الاقتصادية العالمية. ألم يتضاعف النمو الاقتصادي للقارة الأفريقية ثلاثة مرات منذ عام 2002 وذلك بمعدل (5%) سنويا لاجمالي الناتج المحلي الاجمالي خلال تلك الفترة؟. وطبقا لتقديرات  صندوق النقد الدولي فان ستة دول من أصل أسرع عشرة اقتصادات على مستوى العالم خلال الفترة من 2001-2010 تقع في أفريقيا، ويتوقع الصندوق أن يرتفع عدد الاقتصادات الأفريقية سريعة النموإلى أحد عشر اقتصادا من أصل عشرين اقتصاد يعدون الأسرع نموا على مستوى العالم، وقد دعم من ذلك الافتراض أن بعض الدول الأفريقية مثل بوتسوانا وزامبيا ونيجيريا استطاعت أن تنتقل إلى فئة الدول ذات الدخل المتوسط خلال فترة زمنية قصيرة. هل يعني ذلك كله أن أفريقيا تعيد نفس مسيرة دول النمور الآسيوية في تسعينيات القرن الماضي؟.

 ومع ذلك فإن رصيد القوى الغربية التقليدية مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا لايزال مهيمنا على قطاع الاستثمار الأجنبي  المباشر في كثير من أنحاء أفريقيا، غير أن الغرب لم يستطع كتمان مخاوفه من الهجوم الصيني الناعم على أفريقيا، فبدأت بعض الدوائر السياسية والأكاديمية الغربية تتحدث عن الاستعمار الصيني الجديد لأفريقيا والذي يسعى إلى الاستيلاء على الموارد الأفريقية بهدف دعم النمو الصيني.

  ويبدو أن القراءة السابقة للمشهد الأفريقي منذ الألفية الجديدة تذكرنا بقصة العميان والفيل ومخاطر الادراك الجزئي للحقيقة، ولعل ذلك هو ماعبر عنه أبو حيان التوحيدي في احدى مقابساته بأهمية الاحاطة الكلية بحال المتكلم عنه، ولبيان تناقضات النمو والصعود في ظل استمرار متلازمة الفقر والتخلف في الواقع الأفريقي نشير إلى خبرة نيجيريا التي عادة ماتوصف بأنها عملاق أفريقيا النائم. لقد ارتفع الناتج المحلي الاجمالي في نيجيريا خلال السنوات الخمسة الماضية بشكل كبير حتى أضحى الاقتصاد النيجيري كما بينا سلفا أحد أكبر الاقتصادات الصاعدة في أفريقيا.

     ففي عام 2012 بلغ اجمالي الناتج المحلي مايربو على (273) مليار دولار بمعدل نمو يقارب (6.6%) سنويا مقارنة بنحو (34.5) مليار دولار فقط عام 1999، وهذا يعني ببساطة أن نيجيريا شهدت تضاعف ناتجها المحلي بنحو (700%)  مقارنة بماكان عليه عام 1999.

    ومع ذلك فإن الاحاطة الكلية لواقع التنمية الشاملة في نيجيريا تظهر أن هذه القراءة الشكلية لمعدلات النمو الاقتصادي لا تعطي صورة حقيقية عن  الخصائص الهيكلية للنهضة النيجيرية، إنها على سبيل المثال لاتظهر طريقة توزيع الثروة الهائلة ولاتقل شيئا عن كيفية حدوث التراكم الرأسمالي. ولعل ذلك يفسر لنا أنه على الرغم من ارتفاع معدلات النمو منذعام 2003 فقد ارتفعت معدلات البطالة بما يزيد على الخمسين بالمائة ، كما أن هناك نحو مائة مليون مواطن يعيشون على أقل من دولار واحد يوميا. يعني ذلك أن (70%) من جملة سكان العملاق الأفريقي يعيشون تحت خط الفقر.

    ولايخفى أن الاقتصاد النيجيري لايزال تحت رحمة الشركات الأجنبية متعددة الجنسيات والتي تعمد دائما الى نهب ثروات البلاد وذلك بمساعدة النخب الوطنية التي تحصل على الفتات طبقا لتعبير الاقتصادي الجنوب أفريقي موليتسي مبيكي في كتابه عن هندسة الفقر. فالنخب النيجيرية الحاكمة ، شأنها في ذلك شأن غالب النخب الأفرريقية، لم تستطع  بعد مرور سنوات طوال على الاستقلال  بناء صناعة وطنية بما يدفع المجتمع قدما إلى الأمام، بل على العكس من ذلك تماما أسهمت بدور بارز في تدهور الدولة الوطنية ومؤسساتها، كما أنها أضحت واحدة من أكثر النخب الحاكمة فسادا على ظهر الأرض.

    ولاتزال الشركات الكبرى في نيجيريا في أيد أجنبية بدءاً من النفط وانتهاء بقاعدة الصناعات التحويلية الرئيسية.وتقوم هذه الشركات بجمع مليارات الدولارات وتحويلها للخارج في حين يظل الفتات نهبا لسوء الادارة والفساد الذي تمارسه النخبة الحاكمة. والواقع المعاش اليوم يظهر بجلاء أن نيجيريا في حالة حرب مع نفسها، فهي تشهد وجود عدة حروب صغيرة تحدث في جميع أنحاء البلاد. وعندما أعلن الرئيس جودلاك جوناثان حالة الطوارئ في ثلاثة من ولايات الشمال الشرقيفى 14 مايو 2013 ، اعترف بأن هناك " تحديات أمنية طويلة الأمد في إحدى عشرة ولاية في شمال نيجيريا،وذلك بسبب تزايد مخاطر بوكو حرام ، ويبدو أن الوضع لايختلف كثيرا في جنوب نيجيريا حيث ارتفعت معدلات الجريمة بشكل كبير مع تزايد عمليات الخطف والسطو المسلح، ولاتزال الأوضاع في دلتا النيجر الغنية بالنفط مضطربة رغم وجود برنامج العفو الحكومي عن  المتمردين السابقين والذي استفادت منه كذلك العصابات المسلحة المتحالفة مع بعض أفراد النخبة الحاكمة، ولاشك أن المواطنين البسطاء هم من يدفع ثمن هذه الصراعات المسلحة في نفس الوقت الذي تقوم فيه شركات النفط متعددة الجنسيات وحلفائها المحليين باستغلال ونهب ثروات نيجيريا الوطنية.

على أن أحد التحولات  الفارقة في المشهد الجيوسياسي لمنطقة غرب أفريقيا والساحل والصحراء يتمثل في قيام جماعة بوكو حرام بتغيير خطابها الديني ومن ثم تكتيكاتها في مواجهة الأعداء. فقد انتقلت الجماعة من مواجهة الدولة (الكافرة) إلى مواجهة كل من الدولة والمجتمع معا باعتبارهما لايطبقان شرع الله. ففي 24 فبراير 2014 اعتدى بعض أعضاء الجماعة على طلاب مدرسة حكومية وقتلوا نحو ستين طالبا حرقا. أما الطالبات فلم يتم التعرض لهن وأرسلن إلى بيوتهن بعد اعطائهن تعليمات مشددة بعدم العودة للدراسة والبحث عن زوج صالح.

    يبدو أن هذا التحول الفكري والعملياتي لجماعة بوكو حرام التي يمتد نشاطها الى حزام الغرب الأفريقي ومنطقة الساحل والصحراء ولاسيما دولتي الكميرون والنيجرقد دفع الادارة الأمريكية إلى اعتبار الجماعة تنظيم ارهابي . كما هبت ادارة اوباما للدخول في برنامج تدريبي مع الجيش النيجري لاعداد وتأهيل كتيبة نيجيرية خاصة بمحاربة الارهاب .ومن  المعلوم أن هذا التحول في فكر الجهادية الاسلامية في أفريقيا  وفشل الدول الأفريقية الضعيفة في احتواء تبعات ذلك التحول قد دفع بالولايات المتحدة إلى تبني استراتيجية جديدة تقوم على المواجهة غير المباشرة لقوى التطرف الاسلامي في أفريقيا دون ارسال المزيد من القوات أو الأموال.

    وطبقا لمقال ايريك شميت في النيويورك تايمز  بتاريخ 5 مارس 2014 فان قيود الميزانية أضحت عقبة أمام ارسال دعم مالي أمريكي لكثير من البلدان الأفريقية ، كما أن الرأي العام الأمريكي أضحى غير متقبل لفكرة ارسال قوات أمريكية كبيرة إلى الخارج بعد تجربة كل من أفغانستان والعراق. وعليه فقد ارتأت ادارة أوباما أنها يمكن أن تضرب أكثر من عصفورين بحجر واحد وذلك من خلال توفير الدعم والتدريب للقوات الأفريقية لتمكينها من مواجهة المخاطر الأمنية التي تهدد بلدانها، وفي نفس السياق توفير الدعم كذلك للحلفاء الأوربيين الذين يمتلكون روابط تاريخية وعسكرية قوية مع أفريقيا مثلما هو الحال بالنسبة لفرنسا والمملكة المتحدة.

يعني ذلك أن الموقف الأمريكي في سعيه للدفاع عن مصالحه الأفريقية تحول من دور المحارب الرئيسي في ساحات القتال إلى دور الداعم للقوى المحلية والدوليةالتي تقوم بمهام ميدانية. وعلى سبيل المثال قامت الطائرات الأمريكية بنقل نحو 17 ألف جندي رواندي وبوروندي  إلى جمهورية أفريقيا الوسطى للمشاركة في قوات حفظ السلام هناك دون أن تطأ قدم أي جندي أمريكي هذه الأرض، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدة عسكرية في النيجر إلا أنها لاتشارك بأي قوات قتالية في الحرب التي تقودها فرنسا في شمال مالي.ولعل الأمر يقتصر على ارسال طائرات استطلاع بدون طيار لمساندة القوات الفرنسية والأفريقية في مالي. وعلى الرغم من أن الهجوم  الذي شنه مقاتلي القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي على قاعدة رأس مناس الجزائرية قد أفضى إلى احتجاز رهينة أمريكية فان ادارة أوباما أصرت على النأي بنفسها عن التدخل المباشر في صراعات اقليم الساحل والصحراء.

    ومن الواضح تماما أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في أفريقيا تعول تماما على الحلفاء الأوروبيين. ففي يناير 2014 أعادت فرنسا نشر نحو ثلاثة آلاف من قواتها في منطقة الساحل الأفريقي وذلك للقيام بمهام محاربة الارهاب. وفي هذا السياق  تحتفظ فرنسا بقوتها الجوية في تشاد في حين تتمركز قواتها البرية في بوركينا فاسو أما قاعدة الامدادات والتموين الأساسية فانها تقع في ساحل العاج.

     أين المفر إذن، من هذه الحروب غير المقدسة التي تشهدها كثير من الدول الأفريقية  وتقف وراءها تحالفات المصالح الدولية والمحلية في عصر التكالب الثالث على الموارد والثروات الأفريقية؟  أحسب أننا أمام ثلاثة مخاطر كبرى تترتب على تعقيدات المشهد الأفريقي المتحول منذ بداية هذا العقد:

أولا: عولمة التطرف والارهاب: إذ ثمة احتمالات لايستهان بها من تحول الجماعات الجهادية المتطرفة لتنفيذ عملياتها المسلحة خارج سياقها المحلي وذلك تحت ضغط التحالف الدولي والاقليمي ضدها.يعني ذلك انتشار العنف وتجاوز حدود المحلية ليصبح عابرا للحدود الوطنية والدولية. ولعل ذلك ما يؤكده  التحول العملياتي لشباب المجاهدين في الصومال عندما استهدفوا كلا من العاصمتين الأوغندية والكينية.

ثانيا:سقوط وتداعي نموذج التحول الديموقراطي الليبرالي: إذ ينطوي الدعم الأمريكي والأوروبي لحكومات أفريقية فاسدة على مخاطر جمة.إنه يعني تورط الدول التي تبشر بقيم الحرية والشفافية والمساءلة في ممارسات فاسدة وانتهاكات لحقوق الانسان، وعلى سبيل المثال توجد حالة من الغضب الشعبي الهائل في الشمال النيجيري ضد ممارسات حكومة جودلاك جوناثان  ولاسيما ما يتعلق منها بالفساد وسوء الادارة، ومن المعلوم أن أجهزة الأمن في كثير من الدول الأفريقية  تتمتع بسمعة سيئة فضلا عن افتقارها لمعايير المهنية والكفاءة، وعليه فان مشاركة الولايات المتحدة في تدريب هذه القوات يعني تورطها في دعم هذه الحكومات الفاسدة.

ثالثا: الإرهاب الإسلامي: وهو الخطر الأكثر تأثيرا ويهدد بتقويض دعائم الدولة الأفريقية حيث أنه يتمثل في وجود مواجهة مجتمعية مع ظاهرة التطرف الاسلامي. و نظرا لعدم كفاءة أجهزة الأمن الوطنية  وعدم قدرتها على مواجهة العمليات المتزايدة التي تقوم بها جماعات مثل بوكوحرام والشباب المجاهدين فقد تشكلت ميليشيات مدنية  من أجل الدفاع عن المدنيين وهو يعني تحمل المجتمع مهمة الدفاع عن نفسه في ظل حالة التراجع والانسحاب الذي تعاني منه الدولة في هذه المجتمعات. أحسب أن هذا التحول ينطوي على تبعات سلبية تقوض مسيرة النهضة والاندماج الاجتماعي في أفريقيا.

    وأيا ماكان الأمر فان الفساد وسوء الادارة وتحالف المصالح الخارجية والداخلية يقف حائلا أمام نهضة أفريقيا وصعودها في القرن الحالي.ماذا يعني أن يصرح محافظ البنك المركزي النيجيري السابق لاميدو سنوسي  بأن عشرين مليار دولار من عائدات نفط بلاده قد ضلت طريقها للخزانة العامة واختفت في ظروف غامضة بحيث لم يعثر لها على أثر؟.أظن أن الاجابة على مثل هذا التساؤل قد تحدد مسارات النمو والنهضة الأفريقية في السنوات القادمة.