المتابع للعلاقات الأمريكية مع دول وكيان حوض المتوسط، سيكتشف أن هناك استثناء في العلاقة مع تركيا. ربما بعد كيان الاحتلال، ليست هناك علاقة انسجام واضحة لواشنطن أكثر منها مع أنقرة. التاريخ الحديث يعود بنا إلى قرن أو أكثر من علاقة البلدين، ومن النادر جدا أن سجّلت تلك العقود حالة توتر كبيرة أو خلافات عميقة في قضايا تخص التحولات الدولية، وحتى الاختلافات بينهما عادة ما تهدأ بسرعة. الأتراك هنا يتعاملون مع واشنطن على أنها حليف دائم وأقرب إليها حتى من دول الاتحاد الأوروبي وهنا المسألة مرتبطة باستراتيجية الموقع التركي الذي ترى الولايات المتحدة أنه حيوي وليس في صالحها خلق مشاكل مع حليفها حتى في قضايا تعرف بعض الخلافات.
وبعيدا عن التاريخ، وبناء على التطورات السياسية والأمنية التي تشهدها المنطقة العربية في العشرية الأخيرة، سنجد أن هناك ارتباطا وثيقا بين تركيا والولايات المتحدة. ترجيحات كثيرة تذهب إلى أن الأتراك يعتبرون واجهة لتسويق جماعات الإسلام السياسي الصاعدة في عدد من البلدان، وهي مانحة "صك الغفران" للإخوان المسلمين، ومسوقة أنهم اسلام ديمقراطي منسجم مع المقولات المدنية للدول، ومتصالحون مع الليبرالية الغربية في شكليها السياسي والاقتصادي، وهذا بالفعل لقي صداه لدى الأمريكان الذي يتعاملون مع عناوين السياسة بما يقدّمه المقابل لهم من ضمانات في جملة من القضايا وهنا الإسلاميون كانوا الأكثر قدرة على التنازل وتقديم بوادر "حسن النوايا"، حتى في القضايا التي كانت عندهم قبل عشريتين من المحرمات التي دونها الجهاد والقتال.
من هنا يمكن الحديث عن دور وساطة، أو عملية تسويق تقوم تركيا "للخيارات الجديدة" باعتبارها حليفا قويا يحظى بثقة ورضى أمريكييْن، ولهذا وجدت أنقرة نفسها في وضع مريح في التعامل مع التحولات التي حصلت عربيا، بل كسبت نفوذا ما كان ليُمنح لها لو لم يكن الإسلاميون جزءا من المعادلة خاصة في السنتين الأوليين بعد 2011 قبل أن تتغير الأمور على غير ما تريد في مصر وتحول العلاقة نحو توتر غير مسبوق. وبالحديث عن النفوذ التركي في الإقليم، ستكون ليبيا آليا إحدى الواجهات لذلك النفوذ. فالدولة الحالمة بمشروع عثماني جديد يحمل لواءه حزب العدالة والتنمية وزعيمه رجب طيب أردوغان، وجد في ليبيا منذ 2011، مجالا رحبا لتنفيذ أجنداته السياسية ومن ورائها طبعا أطماع اقتصادية كسبتها فيما بعد بشكل متدرّج آخره الاتفاقيات المبرمة في نهاية 2019 مع فائز السراج رئيس حكومة الوفاق آنذاك.
الأكثر من ذلك كانت تركيا منافسا متعنتا في الأزمة الليبية مع خصومها الأروبيين، الذين بدورهم لا يرون في ليبيا إلا حامية لسواحلهم، وكعكة مغرية يجب الانقضاض على كل الفرص الممكنة فيها. بقيت تركيا خلال كل هذه السنوات لاعبا محوريا في الأزمة بل شريكا في الحرب الدائرة من خلال الاصطفاف المكشوف مع الشق الإسلامي الذي كان عنوانها العسكري المجموعات المسلحة وعنوانه السياسي في السنوات الأخيرة، حكومة الوفاق التي لم تكن ترى أي إشكالا في التدخلات التركية في بلاجها، بل ربما أقنعت نفسها أن أنقرة بالفعل هي الحامية العثمانية التي تستعيد لها "مجدا" مزعوما.
في علاقة تركيا والولايات المتحدة حول الأزمة الليبية، هناك مساران؛ الأول مسار التناسق التام، من خلال الصمت الأمريكي على الدور الذي نلعبه أنقرة في ليبيا، في رسالة تشير إلى رضى عن ذلك الدور، أو ربما تكون هي جزء من ذلك الدور لكن عبر الواجهة التركية، خاصة أن "العدو" الروسي يقف على النقيض منذ 2011، وتدعّم ذلك في حرب طرابلس عام 2019 بعد أن أصبحت عناوين التحالفات مكشوفة وغير خافية على أحد. الصمت الأمريكي حول تركيا إذن يفهم منه أنه دعم في مواجهة روسيا أكثر منه موافقة على الممارسات التركية. والأمريكان هناك لا تشغلهم الحروب والدماء بقدر ما يفكرون فيما ينفعهم استراتيجيا، وفي هذه كانت أنقرة هي الأقرب إليهم.
وفي مسألة التدخل التركي في ليبيا كان مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والأدنى، ديفيد شينكر، قد قال في 12 فبراير 2020 إن وجود أنقرة في ليبيا "خلق توازناً يمهد الطريق أمام سبلٍ أفضل للتفاوض"، وهي نفس تصريحات جيمس جيفري، الممثل الخاص للولايات المتحدة لمشاركة سوريا والمبعوث الخاص للتحالف العالمي لهزيمة داعش، الذي قال إن أنقرة وواشنطن لهما أهداف جغرافية استراتيجية مشتركة في سوريا وليبيا، حيث التنسيق والتعاون في المعلومات مهم جداً"، وهذه التصريحات تعني موافقة ضمنية على المخطط التركي الذي يضمن لها مكاسب استراتيجية واقتصادية مستقبلا.
في هذا الإطار أيضا قال الكاتب الصحفي "عبد المنعم ابراهيم" في مقال سابق له على "أخبار الخليج"، إن واشنطن تعرف جيدًا حجم التواجد العسكري الكبير لتركيا في ليبيا، وتعرف جيدًا أن (أنقرة) تجند المرتزقة السوريين، ومليشيات إرهابية أخرى كالقاعدة وداعش و(الإخوان المسلمين) للقتال إلى جانب حكومة (السراج) في طرابلس، ولكنها لم تفعل شيئًا لكبح جماح طموحات تركيا التوسعية في ليبيا، ومن غير المستبعد أن تكون (واشنطن) متواطئة مع (أنقرة) في سياستها التوسعية ضد مصالح الدول العربية المجاورة للأراضي الليبية مثل مصر.
لكن هناك مسار ثان هو مسار الاختلاف وفي الواقع ليس اختلافا بقدر ما هو مسايرة لما أفرزته جلسات الحوار السياسي الليبي حول ملف المرتزقة الأجانب، وهنا كانت التصرحات الأمريكية تطالب تركيا بضرورة إخراج مرتزقتها من ليبيا، وقد جاءت على لسان القائم بأعمال المندوب الأميركي لدى الأمم المتحدة، ريتشارد ميلز، في يناير 2012، الذي طالب "من تركيا وروسيا الشروع فوراً في سحب قواتهما من ليبيا، بما يشمل القوات العسكرية والمرتزقة"، لكن إلحاق روسيا هدفه تسجيل نقاط سياسية بالنظر إلتى تخوفات واشنطن من أن تضع موسكو قدما في ليبيا بعد أن كانت غائبة عنها في السابق.
خلاصة القول في علاقة الأمريكان بالأتراك حول الأزمة الليبية، أنهم أوفياء لتاريخهم القديم من جملة القضايا والتي لم تعرف تقريبا أي خلافات تذكر وكانت أنقرة لاعبة في الغالب دور الشرطي المراقب والحليف المطيع في الكثير من الإشكاليات خاصة التي تعرفها المنطقة العربية.