دخلت ليبيا في دوامة من العنف والفوضى الأمنية إثر الأحداث التي استجدت بالبلاد سنة 2011 و أسفرت عن سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي.
هذه الفوضى جاءت عقب تنامي التيارات المسلحة والحركات الجهادية بصورة متواترة، إذ شكّل صعودُها القوي حالةً من التأزم السياسي والانفلات الأمني، إضافةً إلى فرض واقعٍ يعمد إلى تهميش الدولة، لتكون بلا سلطة حقيقية، تتقاسمها الميلشيات لا تتوقف معها دائرة العنف والقتل، والصراعات المناطقية والجبهوية.
ويعود تشكيل الجماعات الإسلامية المتشددة في ليبيا إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي، عندما التحق عدد من الليبيين للقتال ضمن "تنظيم القاعدة" في أفغانستان. وبات المقاتلون الليبيون مصدراً قتالياً للعمليات الإرهابية لهذا التنظيم في عدد من دول العالم، في العراق وسوريا وأفريقيا وتحديداً في مالي ونيجيريا.
ويُعتبر فرع القاعدة في ليبيا المعروفة باسم "الجماعة الليبية المقاتلة" بقيادة عبد الحكيم بلحاج، ثاني أكبر فروع القاعدة شمال أفريقيا، بعد "الجماعة الجهادية" في الجزائر.
فإثر إسقاط نظام القذافي، استغلّت الكتائب المسلحة الفراغ والتصدع الناشئ في بنية السلطة؛ حيث تمركزت بعض الجماعات الإسلامية في المنطقة الشرقية والغربية من ليبيا، وأخرى في الجنوب، وفي مدينة درنة انتشرت كتيبة "عقبة بن نافع"، إضافةً إلى كتيبة "أنصار الشريعة"، التي كان لها نفوذ في بنغازي أيضاً.
وقامت هذه الجماعات بشنّ هجمات، واستغلت غياب السلطة الحاكمة في الكثير من أنحاء البلد لتجتمع بالشبكات الإرهابية الأخرى العاملة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، من أجل تخطيط أنشطتها وتنسيقها.
طيلة هذه السنوات شهدت حركة الجماعات الجهادية تحولات مهمة إذ لم يكن الوضع الأمني و السياسي بالاستقرار الذي يسمح للحركات المسلحة بالتغلغل في الساحة الليبية أو بالإنسحاب بسهولة.
حيث مثلت عملية مقتل السفير الأمريكي في القنصلية الأمريكية ببنغازي في سبتمبر 2012 حدثا محوريا و محددا لوضع الجماعات الجهادية في البلاد ، إذ بدأ مسلسل الاغتيالات تدريجيا وبشكل تصاعدي منذ عملية اغتيال السفير الأمريكي ، حيث راح ضحية مسلسل الاغتيالات مئات الضباط والنشطاء السياسيين حتى وصلت إحصائية المغدور بهم معدلا كبيرا حيث شهدت ليبيا خلال عام 2013 محاولات اغتيال عدة في بعض المدن، راح ضحيتها نحو 120 شخصا، بينما صنفت المحاولات الأخرى بالاغتيالات الفاشلة أو غير المكتملة.
وقد بلغ عدد ضحايا الاغتيالات من القيادات الأمنية والعسكرية منذ مطلع يناير وحتى نهاية ديسمبر 2013, في كل من بنغازي وطرابلس ودرنة، ومصراتة، والعجيلات، وطبرق، وسبها، أكثر من 90 شخصا، فيما بلغ عدد من اغتيلوا في صفوف الشخصيات المدنية والحقوقية ما يقارب عن 30 شخصا، بينما كانت العناصر الاخرى لهذا التحول منع التنظيمات الجهادية في درنة إجراء انتخابات اختيار لجنة صياغة الدستور من الانعقاد في درنة، كذلك شكل تكون تنظيم اخر لأنصار الشريعة في سرت كان يعتقد أنه تابع لتنظيم أنصار الشريعة الموجود في بنغازي شكلا اخر لعملية التحول الأولى في عمل التنظيمات الجهادية وسرعة انتشارهم وقدرتهم على التنظيم. كان من ابرز تداعيات هذه المرحلة استفزاز تنظيم أنصار الشريعة، حيث حُمّل التنظيم المسؤولية نحو جميع عمليات الاغتيال في بنغازي دون اجراء تحقيقات حقيقية حول الأمر، رغم أن مصادر موثوقة في بنغازي تؤكد أن أنصار الشريعة في بنغازي يقفون وراء بعض عمليات الاغتيال في بنغازي ويمكن تمييز العمليات التي كانوا يقفون وراءها بسهولة.
كما شكل ظهور داعش على الساحة الدولية وتصاعدها و ازدياد قوتها وتغلغلها هزة عنيفة في أرجاء العالم حيث كانت له تداعيات على التنظيمات الجهادية الأخرى وخاصة على الجماعة الأم "تنظيم القاعدة" وفروعها في أنحاء الدول الإسلامية إذ بايع أفراد و تنظيمات مختلفة في بنغازي ودرنة وسرت تنظيم الدولة الإسلامية، و ترك الكثيرون تنظيماتهم الجهادية الأولى، على غرار ما حدث في سوريا والعراق، وآثروا الانضمام لتنظيم الدولة مما كان له الأثر الواسع على خارطة توزيع القوى في الساحة الليبية و الأثر الكبير على وضع العمليات القتالية في شامل التراب الليبي.
فداعش في ليبيا ليس طرفاً واحداً أو وحدة متكاملة تنظيمياً بل هي فسيفساء تختلف من حيث الجهة المُمولة والداعمة لوجستيا ومن حيث الامتداد الجغرافي، فـداعش سرت، وإن كان لم يعد له وجود يذكر رغم المحاولات المتكررة لإعادته إلى ليبيا، فإنه كان خليطاً بين داعشيين تونسيين ومصريين يسود غموض حول الجهات الداعمة لهم وبين بقايا مرتزقة القذافي وأنصاره في الجنوب الليبي، بينما كانت في صبراطة تنظيماً مُركباً ومدعوماً لوجستياً من طرف عدد من القوى الإقليمية وبعض أجهزة المخابرات الأجنبية والمنظومات القديمة لعدد من الأنظمة العربية التي أسقطتها ثورات الربيع العربي، وهو تواصل موضوعي لتنظيم إرهابي تونسي كان يٌدعى شباب التوحيد، أما درنة فهي مجموعات ليبية كانت تنتمي لشبكات تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أو تنظيم القاعدة المركزي بقيادة أيمن الظاهري، وتبنت فكر، وبايعتها منذ ظهور البغدادي.
كانت الخمس سنوات بين 2011 و 2016 كافية لتحول ليبيا إلى ساحة للفوضى والسلاح، وقاعدةً للجماعات الإرهابية بمختلف توجهاتها. وكانت كافية أيضاً لشق المجتمع الليبي المنسجم قبلياً وطائفياً وعرقياً، وزرع النزعات الإقصائية داخله.
ووفر الصراع المسلح اليوم في ليبيا بين الميلشيات، فضلاً عن غياب سلطة مركزية قوية، كل شروط "لملاذ البديل"لجهاديين عموماً، ولأنصار تنظيم داعش والمبايعين له في منطقة المغرب العربي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى خصوصاً.
منذ فبراير 2016 ، سجلت قوات الجيش الليبي في مواجهة تنظيم مجلس ثوار بنغازي وتنظيم داعش، رغم من ضعف التسليح بسبب الحظر الذي تفرضه المجموعة الدولية على توريد الأسلحة إلى ليبيا.
بعد معارك عدة خرج تنظيم داعش من المدن رسمياً من دون أن يجري القضاء على أفراده كلهم الذين خاضوا المعارك في مدن الشمال الليبي. ففي كانون الأول/ديسمبر 2016 أعلن المشير حفتر تحرير سرت، معقل تنظيم الدولة الإسلامية الذي بدأ ينتشر قبل سنتين مستفيدا من غياب الدولة.
فرحة الليبيين بالخلاص من خطر داعش نغصتها عمليات عدة للتنظيم تنوعت فيها أساليبه في الهجوم، وقد قلل بعضهم من خطر التنظيم وافترض أن داعش انتهت رسمياً في ليبيا وما هذه الهجمات إلا رقصة مذبوح.
ومازال يشكل خطر الإرهاب في ليبيا تهديدا واضحا، بعد تنفيذه عدة هجمات إرهابية في الفترة الماضية، فيما تتحدث التقارير الأممية عن وجود عناصر إرهابية مستغلة الفوضى والانقسام الحادث في البلاد.
وعلى مايبدو أن خطر الإرهاب في ليبيا لم ينته بتحرير سرت وبنغازي ودرنة، حيث أكد التقرير للأمم المتحدة أن أعداد العناصر الإرهابية تتراوح ما بين 500 إلى 700 عنصر، منهم ليبيون وأجانب، اتخذوا من ليبيا ملاذا آمنا لهم، لتنفيذ عملياتهم الإرهابية في عدة مناطق، مستفيدين من حالة الفوضى والانقسام الكبير الذي امتد لسنوات.
الوضع الأمني في ليبيا ليس بمعزل عن سياق دولي متحوّل فكل الأنظار موجهة نحو الدولة النفطية طمعا في كعكة الثروات الباطنية و عقود إعادة الاعمار لذلك فإنه رغم المجهودات الأمنية التي يقودها الجيش الليبي و التي حققت نتائج ممتازة على الميدان إلا لعبت الأمم تأبى إلا و أن يكون الوضع غير مستقر حيث تشهد ليبيا في الآونة الأخيرة تصاعد توظيف المرتزقة الأجانب من جانب النظام التركي لدعم حكومة الوفاق ضد الجيش الوطني الليبي.
وتبلور هذا التوجه التركي بشدة في الآونة الأخيرة مع انتكاسة ميليشيات "السراج" في وقف تقدم عملية "الفتح المبين" التي أطلقها الجيش الليبي لتحرير العاصمة طرابلس. وتعرضت تركيا التي لا تزال تواصل تجنيد متشددين موالين لها، لانتقادات شديدة. حيث طالب الرئيس الفرنسي في مؤتمر برلين، تركيا بالتوقف عن إرسال مقاتلين سوريين إلى ليبيا.