مازال الغموض يخيم على المشهد التونسي الذي يشهد منذ اكثر من شهرين توترا كبيرا بعد القرارات الاستثنائية، التي أعلن عنها الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو الماضي،والتي تضمنت تعليق عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن نوابه، وإعفاء حكومة هشام المشيشي، وتولي رئيس الجمهورية كامل صلاحيات السلطة التنفيذية ورئاسة النيابة العامة.

وبالرغم من الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرض لها،أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد الأربعاء 22 سبتمبر 2021،التمديد في الاجراءات الاستثنائية من خلال مواصلة تعليق جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب، ومواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه، ووضع حد لكافة المنح والامتيازات المسندة لرئيس مجلس نواب الشعب وأعضائه.

وتضمن القرار الرئاسي مواصلة التدابير الخاصة بممارسة السلطة التشريعية، والخاصة بممارسة السلطة التنفيذية.ومواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.كما أكد على تولي رئيس الجمهورية إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتم تنظيمها بأمر رئاسي.

وقبل هذا الاعلان بيومين،أكد الرئيس التونسي في كلمة وجهها للشعب من محافظة سيدي بوزيد، مواصلة العمل بالتدابير الاستثنائية الصادرة في 25 يوليو الماضي، مؤكدا "وضع أحكام انتقالية وقانون انتخابي جديد"، ما اعتبر من قبل مراقبين وسياسيين بمثابة تعليق العمل بدستور 2014. كما أشار إلى وجود مساعٍ لتشكيل حكومة جديدة في أقرب وقت ممكن واختيار وزراء قادرين على تحقيق مطالب الشعب.

قرارات الرئيس التونسي أحدثت انقساما كبيرا في الساحة السياسية في البلاد،حيث أعلنت أحزاب تأييده وأخرى معارضته.ووقّعت أحزاب "حركة تونس إلى الأمام" و"حركة الشعب" و"التيار الشعبي" و"حزب التحالف من أجل تونس" و"حركة البعث" و"الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي"، بيانًا مشتركًا أعلنت فيه دعمها لقرارات 25 يوليو الماضي،داعية إلى إشراكها بوضع تصور لتعديل فصول من الدستور، وتعديل القانون الانتخابي.

وفي المقابل أعلنت أحزاب "الاتحاد الشعبي الجمهوري"، و"حراك تونس الإرادة"، و"حزب الإرادة الشعبية" و"حركة وفاء"، رفضها لقرارات الرئيس التونسي. وأعلنت هذه الأحزاب تشكيل ما وصفتها بـ"الجبهة الديمقراطية" التي تعارض ما وصفته بـ"الانقلاب" في إطار "الدستور والقانون، وبالوسائل السلمية وحدها لا غير".على حد تعبيرها.

وتعرف هذه الأحزاب بقربها من حركة النهضة الإسلامية التي عبرت عن رفضها للقرارات الأخيرة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد.وقالت الحركة في بيان إنها "ترفض بشدة تأبيد الوضع الاستثنائي، وتجميع قيس سعيّد لكل السلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، واستغلاله لفرض خيارات وإجراءات غير دستورية تلغي المؤسسات السياسية والرقابية الشرعية القائمة بما في ذلك البرلمان، والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وهيئة مكافحة الفساد، وتعلّق عمل بقية المؤسسات الدستورية أو تضع يدها عليها".

معارضو الرئيس التونسي اتجهوا الى الشارع في محاولة للتحشيد ضد قراراته الأخيرة،وشهدت العاصمة التونسية ، الأحد الماضي، تظاهرات ووقفة احتجاجية شارك فيها العشرات من أنصار حركة النهضة وقوى سياسية أخرى، وذلك رفضا لما يصفونه بـ"انقلاب" رئيس الجمهورية، قيس سعيد.وردد المتظاهرون المناوئون لسعيد هتافات من قبل"الشعب يريد سقوط الانقلاب".

ونشطت المواقع الاعلامية، وشبكات التواصل الاجتماعي، المحسوبة على حركة النهضة لتضخيم المظاهرات ووصفها الرئيس السابق المنصف المرزوقي بأنها "مليونية"،لكن وكالة "رويترز"،أكدت أن حوالي 2000 متظاهر شاركوا في تظاهرة الأحد، وذلك في ظل وجود مكثف للشرطة، فيما خرجت عشرات المتظاهرين في وقفة احتجاجية أخرى مؤيدة لقرارات سعيد وكانوا يدعونه إلى حل البرلمان بشكل نهائي.

وتحدث نشطاء تونسيون عن محاولات قناة "الجزيرة"،لتضخيم عدد المحتجين حيث وقال الناشط السياسي، فوزي يونس، في تدوينة نشرها عبر صفحته على فيسبوك: "في الوقت الذي تتحدث فيه قنوات العالم عن وقفة احتجاجية معارضة لفخامة الرئيس قيس سعيّد، تُضخّم قناة الجزيرة الوقفة وكأنها تضم مئات الآلاف من الناس حتى تمرّر ما تريده من أجندات".

عمليات التحشيد التي يقوم بها معارضو الرئيس التونسي متواصلة فيما تقابلها دعوات لأنصار سعيد للخروج الى الشارع حيث دعا حراك 25 يوليو،في بيان صادر عنه الى "النزول إلى الشارع الأحد المقبل، وذلك بشارع الحبيب بورقيبة، وأمام مختلف المحافظات وبعض قنصليات تونس في دول أوروبية".أكد الحراك على "ضرورة التنظم والتوحد ودعم سعيد لتحقيق أهداف مسار 25 يوليو"، داعيا إلى"حل البرلمان ومحاسبة الفاسدين"، وذلك "اعتمادا على تقرير دائرة المحاسبات.

دعوات التحشيد المتبادلة تثير مخاوف من صدام وشيك في الشارع التونسي خاصة وأن الاحتجاجات التي شهدتها العاصمة منذ أيام قد عرفت مناوشات بين الطرفين وهو ما دعا الشرطة للتدخل للفصل بين المحتجين من الطرفين بحواجز حديدية، للحيلولة دون وقوع صدامات وحصول انفلات قد يصعب السيطرة عليه.

وأكد الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي غازي الشواشي على "خطورة الدعوات في هذه المرحلة الدقيقة إلى تجييش الشارع أو استعماله لاستعراض القوة أو التهديد بذلك، أو الاستنجاد بالأجنبي للتدخل في الشأن الداخلي، أو الضغط من أجل ذلك أو محاولة بث الفتنة بين الناس.وأضاف في تصريح لموقع "ارم نيوز" الاخباري،إن هذه الوسائل "دنيئة وخسيسة" ولا يمكن أن تساعد في حلحلة الأزمة المُركبة والعميقة التي تعيشها البلاد، بل بالعكس ستدفع نحو صراع داخلي وممارسة العنف والانزلاق نحو الفوضى.

لا شك أن حركة النهضة والأحزاب الموالية لها تعرف أن الرئيس التونسي الذي يحضى بتأييد شعبي واسع لا يخضع للضغط وأن تهديدها بالشارع لا طائل منه لكنها تصر على الذهاب في هذا الطريق في محاولة لفرض المزيد من الفوضى في البلاد أملا في تدخل القوى الدولية للضغط على الرئيس التونسي للتراجع عن قراراته. 

وهذا الأمر يبدو واضحا من خلال الموقف الامريكي، والذي عبر عن قلق واشنطن من استمرار الاجراءات الانتقالية في تونس دون نهاية واضحة.وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس،أنّ الولايات المتحدة تشارك الشعب التونسي هدفه المتمثل في تشكيل حكومة ديمقراطية تستجيب لاحتياجات البلاد وهي تجابه أزمات اقتصادية وصحية.

وأضاف المتحدث الأمريكي، أنّه "على الرئيس قيس سعيد أن يعين رئيسا للوزراء لتشكيل حكومة قادرة على تلبية الاحتياجات الملحة"، داعيا الرئيس إلى "صياغة خطة ذات جدول زمني واضح لعملية إصلاح شاملة".وكانت واشنطن قد أكدت في مناسبات عدة على إنهاء الوضع الاستثنائي والتعجيل بتركيز حكومة جديدة و"إعادة الديمقراطية البرلمانية".

وتثير هذه الرسائل مخاوف من امكانية تصاعد التدخل الأمريكي في الشأن التونسي وقوبلت زيارة وفد الكونغرس بقيادة السيناتور مورفي،مطلع سبتمبر الجاري،برفض واسع في الأوساط التونسية. واعتبر كثيرون أنها محاولة من حركة النهضة للاستقواء بالخارج خاصة وأن الحركة تواجه اتهامات سابقة بإبرام عقود لوبينغ للتأثير في الإدارة الأميركية والحصول على دعمها في مواجهة خصومها.

الأكيد أن الأزمة التونسية تزداد صعوبة ومعها يزداد خطر انزلاق البلاد الى أوضاع أكثر سوءا خاصة على الصعيد الاقتصادي،فبحسب وكالة "رويترز"،تعرضت سندات الحكومة التونسية لضغط جديد، الثلاثاء 28 سبتمبر 2021، وبلغت تكلفة التأمين ضد مخاطر تخلفها عن السداد مستوى قياسيا، مع استمرار تصاعد المخاوف بشأن الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد.

وأظهرت بيانات تريدويب أن سندات 2024، التي يصدرها رسميا البنك المركزي للبلاد، تراجعت بنحو سنت اليوم ليجري تداولها عند 83.535 سنت باليورو.كما أظهرت بيانات من آي.إتش.إس ماركت أن مبادلات مخاطر التخلف عن سداد الائتمان لأجل خمس سنوات قفزت إلى 840 نقطة أساس، بزيادة 22 نقطة أساس عن إغلاق يوم الاثنين، وأكثر من مثلي مستوياتها في بداية العام.

وتعيش تونس نزيفا اقتصاديا مخيف، فنسبة التضخم ارتفعت إلى 5,7 بالمئة خلال شهر يونيو/ حزيران 2021، ونسبة النمو تعاني ضعفا منذ عام 2013. كما يغرق البلد في الديون، إذ يتجاوز حجم الدين العام 100 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولكي تسدد القروض، لا حل لدى تونس سوى أن تأخذ قرضا جديدا، ما دفعها لبدء مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على 4 مليارات دولار، فيما تقترب نسبة البطالة من 18 بالمئة وفق تقارير اعلامية.

وطيلة السنوات العشر الماضية،عاشت تونس فترات من عدم الاستقرار السياسي ووضع أمني صعب مع تكرر العمليات الارهابية التي أثرت بشكل كبير على السياحة في البلاد،ثم جاءت جائحة كورونا بتداعياتها الكارثية لتزيد الأمر صعوبة على اقتصاد البلد المتأزم.وفي ظل هذه التطورات المتسارعة يبقى السؤال مطروحا،الى أين تتجه الأزمة التونسية؟وماهي الخيارات المطروحة لإنهائها؟