ليس من شك فى ان وعينا المثالى بحريتنا الأفلاطونية لا تعني شيئاً على الإطلاق في عالم يستند إلى المعايير الواقعية في كل شيء...ولعل مشهدنا الصحفى الراهن يعكس -الى حد كبير - تلك المفارقة الفاجعه  بين الفهم المثالى للحريه والوعى ...فالصحافة الليبية التي تكسّر قمقمها في فبراير 2011 تكسّرت معها أيضاً كل القواعد والأصول.

لقد حلم الجميع  بحرية التعبير، وصحافة احترافية حرة  تشكل رافعة مجتمعية وصولا إلى صحافة تشكل السلطة الرابعة التي حلم بهاء الجميع ولكن واقعنا الصحفي اليوم يقول ان الصحافة في ليبيا لاثمتل  حتى  السلطة العشرين من حيت المعايير والمهنية  ،  ذلك ما أن بدنا خوض التجربة حتى  تبيّن لنا أننا أعجز من أن نضطلع بالشعارات البرّاقة والأهداف العظيمة التي تغنّيا بها في ساحات المواجهه واكتشفنا أن حريتنا الأفلاطونية لا تعني شيئاً على الإطلاق في عالم يستند إلى المعايير الواقعية في كل شيء فتجربة هيئة دعم وتشجيع الصحافة تقول ..  أن فاقد الشى لايعطيه . الليبيون – على كل حال – لم يصبروا طويلاً، فسرعان ما نشأت "هيئة دعم وتشجيع الصحافة" وقلنا: حسناً.. ثمّة مرجعيّة هنا بإمكاننا الاحتكام إليها، فهذه هيئة "تدعم" و"تشجّع" العمل الصحفي الجاد الذي ينظر إلى مستقبل ليبيا بعيون فاحصة، ويزن ما يرى بعقل راجح، ويترفّع عن الصغائر القبليّة والجهوية والأيديولوجية، وأمام ليبيا تصغر عظائم الأمور..وكنا نرى ان مهمة هذه الهيئه قد حددها عنوانها كجهة تدعم وتشجع المبادرة الصحفية الحره فى مراحل  البدايات والتاسيس التى نعيش ايامها واد بها هي من تصدر الصحف وكانك يابوزيد ماغزيت   .

فما الذي حدث؟! 

 خرج الصحفيّون والكتاب، تفتّقوا من كل حزب وتكتّل وجهة وناحية وقبيلة ووادٍ وشعبة ، في ليبيا فقط  تستطيع ان تكون صحفي في يوم وليلة .  صاروا يفوقون "ياجوج وماجوج" عدداً.. اعتقدَ كلّ من يمسك ورقةً وقلماً، أو يجيد اللعب على لوحة المفاتيح، أن بإمكانه أن يصبح صحفياً لا يشقّ له غبار. صرنا دولةً يمثّل فيها الصحفيون فئة ً مستقلّةً، ولعلنا أكثر دولة في العالم من حيث عدد الصحفيين قياساً بعدد السكان والمحصلة صفر مع الاحترام الشديد لزملا الحقيقيين . 

وذهبت هيئة 1200 صحفي كما قال رئيسهاء الى استنساخ صيغة المؤسسة العامه للصحافه وبشكل أسوأ لتفرخ لنا كما هايلا من الصحف التى تفتقر الى ابسط شروط العمل الصحفى شكلا ومضمونا ..معيدة الى اذهاننا ذاك الكم من الصحف التي كانت عبارة عن نسخة واحده بعناوين مختلفه .نذهب إلى "الهيئة" لنسألها عن هذا العدد من الصحف الركيكة التي لاترتقي بان يطلق عليها اسم جريدة  من حيت المهنية والشكل والمحتوي التي تملأ الأسواق ، نجد ان ذلك يتم تبريره بترديد  شعارً براق يقول: "صحيفة لكل مواطن".

بيد ان هذا الشعار ﻻ يمكن ان يسوغ مثل هذا العبث وﻻ يبرر مثل هذه السياسة الخاطئه التى تفتقر النزاهة وتظلم العمل الصحفى الحقيقى وﻻ تشجعه بل انها تاتى على حساب الواعد منه (مثال ذلك توقف تجربة صحيفة المسار الناضجة مهنيا بينما استمرت اخريات دون اى تطور ﻻ فى الشكل وﻻ فى المضمون ) وكل ذلك اضافة الى ما ينجم عن تكدس تلك القوى البشرية المحسوبة على العمل الصحفى ..وهذا الكم من الصحف الهزيله ـ التى لا ترقى أن تكون حتي صحف حائطية ـ من توسع فى انفاق المال العام دون مردود حقيقى مما يد خل العملية برمتها ضمن بنود اﻻستنزاف واﻻهدار للمال العام الذى صار يصبغ جميع مفاصل الدوله انتقالية كانت او مؤقته ...

كنا نعتقد  دائماً أن الصحيفة الفاشلة سوف تتوقف تلقائياً لأنها لم تحقّق شرطها الأول وهو: إقبال القراء على اقتنائها، هكذا علّمنا أساتذتنا في كلية الإعلام، ولكننا اكتشفنا  أن وجود "الهيئة" (على هذه الصوره وبهذا المسلك والسياسه ) يقلب موازين العمل الصحفي كما يعرفها الجميع، فهذه الهيئة يهمّها أن يستمر إصدار "الصحف الفاشلة" لكي تستمر هي في الوجود بما يكفي من المبررات للحفاظ عليها وضخ المزيد من الأموال في عروقها الجافة. إننا عندما نطالب بالتدقيق في مستوى ما يقدَّم للقراء فإننا لا نحجر على حق أحد في أن يقول ما يريد، ولكننا ندعو إلى الالتزام بمعايير العمل الصحفي المتعارف عليها في العالم أجمع، إنها "معايير الصّنعة"، وهي التي تجيز أو تمنع، ومن المتّفق عليه في كل مكان، من جزيرة النار، مروراً بطرابلس، وصولاً إلى كمتشكا، أن الحفاظ على "الذائقة العامة" هو أدنى هذه المعايير، وذلك أضعف الإيمان، أي لا مجال لأحد هنا أن يتّهمنا بأمراض الرّقابة التي عشنا تحت معطفها عقود متواصلة.

ولكن.. على من تقرأ زبورك ياداود؟!

لن نختم  هنا.. نريد  أن نقول  أن ما يحدث في "هيئة دعم وتشجيع الصحافة" هو صورة مصغّرة وأكثر رداءة مما يحدث في أروقة الدولة، فحرية الصحافة ليست هي الخدعة الوحيدة التي يتشرّب الليبيون كأسها المسموم. لقد حقّق الليبيون ثورتهم الوطنية، وأثناء ذلك كان الجميع يأملون إنجازَ تغيير اجتماعي شامل يعيد بناء أركان الدولة شبراً شبراً، عليهم أن يضعوا دستوراً أولاً، عليهم الاتفاق على نظام للحكم، ثم عليهم أن يقنعوا العالم بأن الثورة  كانت حدثاً أثبت الليبيون بامتياز، وعن جدارةٍ، ضرورتها الملحّة.

هذه كانت آمالنا.. فما الذي حدث؟

لم نتوقّع أننا سنتعرّض لخديعة تاريخية عندما انتخبنا مؤتمراً وطنياً عاماً، كنا نعتقد أن هذا المؤتمر سيفرّغ كلياً لكتابة الدستور المفقود، أي أن يضع أمام الليبيين عقداً اجتماعياً يكونون هم مسؤولون عنه بعد استفتاء فعلي. ذهب المؤتمر كلّ مذهب، ناقش كل شيء، حتى أضرار التدخين.. الشيء الوحيد الذي لم يتعرض له هو الشيء الذي انتخبناه من أجله، أي الدستور، والآن ها هو المؤتمر يتلاعب، ويتحايل، ويلف ويدور، ويتملّص، ويتزأبق، وهو يعضّ بالنواجذ على السلطة التي ذاق طعمها اللوتسيّ الساحر.  هذا أيضاً ما يحدث في جهاتنا العامة الأخرى. إنهم يقدّمون لنا الأسوأ لكي نمنحهم تفويضاً دائماً على أمل أن ينجحوا في تقديم الأفضل. ولكن.. إلى متى؟!

*عن "الايام" الليبية