يعاني تاريخ الإسلام في القارة الإفريقية من العديد من المشكلات التي تحُول دون التعرُّف على الصفحات الناصعة للإسلام في إفريقيا، فتارةً يتعرَّض التاريخ الإسلامي للتشويه والتحريف، وتارةً يتعرض إلى الطمس والإخفاء، إلا أن مدينة مثل تمبكتو تعطي الدليل القاطع على أن الإسلام مرَّ في إفريقيا تاركًا صفحات بيضاء في التاريخ الإفريقي، رغم كل محاولات التشويه والطمس.
جوهرة إسلامية
وقد جاء تأسيس مدينة تمبكتو في القرن القرن الخامس الهجري (أي القرن الحادي عشر الميلادي) على يد جماعة من الطوارق كانت تُعرف بـ"طوارق مقشرن" وهم مجموعة كانت تعيش في هذه المنطقة بين مدينة يقال لها أروان في إقليم السودان الغربي على بُعد حوالي 450 كيلو مترًا من موقع تمبكتو، فتأسست تلك الجوهرة الإسلامية لكي تكون محطةً للمتنقِّلين في الصحراء؛ حيث ساعدت الطوارق على التنقُّل بين منطقتهم وأروان التي كانوا يرحلون إليها في الخريف، فكانت بالفعل عاصمة الصحراء.
إلا أن البعض يقول إن المدينة أسَّسها ملكٌ يُدعى منا سليمان في العام 610هـ الموافق عام 1213م، بينما يقول البعض الآخر إنها من تأسيس البربر القادمين من الصحراء في العام 580هـ الموافق عام 1087م، وعلى الرغم من أن هناك تواريخ مختلفة إلا أن كلها تسير في إطار زمني متقارب إلى حدٍّ ما.
وكما اختلف المؤرِّخون حول تاريخ تأسيسها فقد اختلفوا حول السبب في تسمية تمبكتو بهذا الاسم، إلا أن الشائع هو أن التسمية جاءت على اسم سيدة عجوز تسمَّى "بكتو" كان الطوارق يتركون لديها حاجاتهم ومعداتهم أثناء الانتقال في الصحراء إلى أروان أو أية منطقة أخرى، وبالتالي حازت المدينة على اسم السيدة العجوز؛ لأنها كانت تقوم بنفس الوظيفة، فكان أن صار اسم المدينة "تين بكتو" أي "مكان بكتو"؛ لأن كلمة "تين" تعني "مكان" في اللغة المحلية التي كانت سائدةً هناك، وبالتالي تحوَّل الاسم من "تين بكتو" إلى "تمبكتو" بعد التقاء النون الساكنة بالباء فأدمجتا وصارتا "تمبكتو".
وكان اختيار موقع المدينة موفقًا؛ حيث تقع قرب مجرى نهر النيجر، فيبعد عنها 16 ميلاً في فصل الشتاء بينما يقترب منها في فصل الصيف فيصل إلى حوالي 7 أميال فقط كما كانت تقع في الوسط بين العديد من المدن الحيوية كأروان وقرى أخرى، مثل كابرا وولاته وكاوا، وهي كلها قرى يقطنها العرق السوداني الذي أسس مدينة تمبكتو التي ما لبثت أن تحوَّلت إلى ملتقى للحضارات، فبدلاً من أن يسكنها ذلك العرق فقط بدأت التوافد عليها من جماعات من سكان الشمال الإفريقي من أهل المغرب، وكان من بينهم أمراء، وبالتالي بدأ التزاوج بين العرقَين وتحوَّلت المدينة إلى مركز إنساني وثقافي واجتماعي بدلاً من أن تكون محطةً للطوارق المتنقِّلين، وهو ما لم يكن مركزًا بسيطًا في حد ذاته، بل كان مركزًا كبيرًا لأنها تحوَّلت بمرور الزمن إلى ملتقى للتجارة بين المناطق الصحراوية بل المناطق الشرقية والغربية الواقعة أعلى الصحراء أيضًا.
وقد اتسمت تمبكتو بالبساطة في أول نشأتها؛ حيث كانت المباني تُبنَى من أعواد الخيزران قبل أن تتطور إلى استخدام الطين في البناء، وهو الأمر الذي كان مناسبًا بعد تطورها إلى أن أصبحت مركزًا تجاريًّا واسعًا في منطقة الصحراء الإفريقية، ويقول في ذلك المؤرخ أحمد بابير الأرواني إن "مقامها من السودان مقام الوجه من الإنسان"، ثم عرفت المدينة نشاط تربية الإبل والأبقار والأغنام والخيل والحمير، فكانت حرفة الرعي أحد أبرز الأنشطة في تلك المدينة؛ مما زاد أيضًا من نشاطها التجاري؛ حيث بدأ سكان المناطق المجاورة في التوافد عليها ليبيعوا ثرواتهم الحيوانية في أسواقها ويشتروا السلع التي يحتاجونها، وكان النحاس الأحمر والحرير والتوابل من أهم المنتجات في تمبكتو، بالإضافة إلى سن الفيل وريش النعام وبخور السودان والصمغ، إلى جانب الذهب والفضة.
مركز علمي
وقد أثَّرت كل تلك العوامل في نفسية أهل المدينة، فتميزوا بالتسامح والقدرة على قبول الآخر والتعامل معه بكل أريحية، بالنظر إلى أنهم تجار يستقبلون يوميًّا الوافدين من كل مكان، كما أسهم أيضًا اختلاط الأعراق في أهالي المدينة إلى إكسابها علاقاتٍ جيدةً مع المناطق المجاورة، فالكل له صلات نسب وقرابة بأهالي تمبكتو، وبالتالي لن يفكر أحد في التعامل معها بعدائية.
وقد أدى هذا الاستقرار الاجتماعي والرخاء الاقتصادي إلى النشاط العلمي والديني تحديدًا، فكان أن بدأ الأهالي في تأسيس المساجد، وكان أول مسجد هو مسجد سيدي يحيى الذي بُني في عهد أحد ملوك طوارق مقشرن قبل أن يحمل اسمه هذا، ثم تعرَّض إلى التدمير بمرور الزمان قبل أن يتم تجديده على يد محمد نضي أحد حكام تمبكتو، الذي أسند الإمامة فيه إلى شيخ يُدعى سيدي يحيى في العام 868هـ والذي حصل منه المسجد على اسمه الحالي، وكان الشيخ أحد أبرز علماء الفقه الإسلامي في تلك المناطق وقد قدم إليها من المغرب.
وإلى جانب ذلك فإن هناك جامع "سنكوري" الذي تبرَّعت إحدى نساء قبيلة سركولو التي كانت تقطن تلك الأنحاء ببنائه، وبالإضافة إلى ذلك فهناك جامع دنفريير، وكان قد بناه في الأصل أحد الأندلسيين لكانكان موسى أحد حكام مالي، وقد أسهمت هذه المساجد في تطوير تلك الحياة الدينية والعلمية؛ حيث كان المسجد يُستخدم مركزًا للتعليم في تلك المناطق، وكان التعليم يَسِيرُ في أكثر من طريق.
ومن بين الطرق التي كان العلم يَسِيرُ فيها تقسيم التعليم إلى ابتدائي وثانوي وعالٍ، إلى جانب علوم القرآن الكريم، وكانت بعض المساجد تحتوي على عدد من مراحل التعليم معًا، فكان فيجلس في جانب من الجامع طلبة القرآن مع تلاميذهم، فيما يجلس في فنائه وقاعاته طلبة التعليم الثانوي والتعليم العالي، إلا أن هذا النمط لم يكن سائدًا في كل المساجد؛ لأن طلبة تعليم القرآن الكريم كانوا يفضلون اختيار أماكن خاصة بهم، وبصفة عامة فقد شاع في تمبكتو- بخاصة في القرن الـ16 الميلادي- نظام الشهادات العلمية وكانت تسمَّى "الإجازات" مثلما كان شائعًا في باقي البلاد الإسلامية، وهو ما يشير إلى ارتفاع مستوى المنظومة التعليمية التي كانت سائدةً في هذه البلاد.
موسى الذهبي!!
ومن أشهر الشخصيات التي عرفتها تمبكتو الحاج منسا موسى، أحد أبرز الأمراء الذين تولوا هذه البلاد، وكان رجلاً سخيَّ اليد، وسجَّل له التاريخ واحدةً من أكثر الحكايات طرافةً، فقد كان موسى في طريقه إلى الحج ذات يوم ولما خرج قاصدًا بيت الله الحرام مرَّ على العديد من العواصم الإسلامية من بينها القاهرة وأنفق طوال الرحلة حوالي 12 طنًا من الذهب؛ الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمة الذهب في المدن التي مرَّ بها!!
وفي دليل آخر على سخائه كان مانسا موسى ينفق على العلم والعلماء بصورة كبيرة إلى الدرجة التي جعلته يقوم ببناء العديد من المساجد الجامعة في تمبكتو، والتي كانت عبارةً عن مساجد ودور علم في الوقت نفسه، كما استقدم إليها العلماءَ والمفكِّرين ورصدَ لهم الأموالَ؛ مما حفَّزهم على الإبداع الفكري؛ الأمر الذي أنتج الكثير من المخطوطات الإسلامية النادرة في مختلف المعارف والعلوم الإسلامية والإنسانية.