طالعتنا الأخبار الواردة خلال الأيام الماضية بتحركات تكتيكية تجريها قوات الوفاق في المنطقة الوسطى، في الوقت الذي لا تزال فيه المعارك والاشتباكات مستعرةً على أشدها في محاور القتال الأساسية في طرابلس. في هذا السياق، تحدث الناطق باسم القيادة العامة للقوات المسلحة العربية الليبية، اللواء أحمد المسماري، في مؤتمره الصحفي الأسبوعي، عن قيام سلاح الجو التابع للقيادة العامة بشن غارات جوية مكثفة على أرتال مسلحة للمليشيات التابعة للوفاق في نقاط متعددة بضواحي مدينة سرت، كانت قد وصلت إليها منطلقة من مدينة مصرانه، وأسفرت عن تدمير عشرات الآليات المسلحة والقضاء على من فيها.
ووفقاً لخبير إستخباري عسكري، تواصلت معه بوابة أفريقيا الإخبارية، فإن هذه التحركات يمكن فهمها في سياقين؛ التكتيكي المتمثل في تخفيف الضغط عن مليشيات الوفاق في طرابلس، ومحاولة إرباك خطط القوات المسلحة التي تحشد مزيدا من إمكانياتها لشن هجوم ساحق يستهدف كسر العمود الفقري للمليشيات، والتقدم داخل أحياء العاصمة وتحريرها. والإستراتيجي المتمثل في محاولة الهجوم المضاد الذي تعول (مليشيات الوفاق)على أن يخلق موقفاً عملياتياً دراماتيكياً جديداً يؤدي إلى إفشال عملية تحرير العاصمة بأكملها. ولذلك فإن هذه التحركات، ربما كان هدفها الهجوم على قاعدة الجفرة والسيطرة عليها، وقطع خطوط الإمداد اللوجيستي للقوات المسلحة.
وأضاف الخبير أن انجاز الهدف الإستراتيجي، فيما لو أنجز، سيحقق الهدف التكتيكي بالضرورة، بينما لن يكون العكس صحيحاً. وأردف قائلاً: إن الظاهر من تحركات المليشيات هو محاولة بناء رؤوس جسور إستراتيجية في (بونجيم وبوهادي)، وقاعدة إمداد ودعم إداري ولوجستي في (بوقرين) للهجوم على الجفرة من محاور متعددة.
لكن أحد متابعي الشأن الليبي قال بإن هدف هذه التحركات يحتمل قراءات متعددة. فهي إما أن تكون للهجوم على قاعدة الجفرة، أو القيام بهجوم مزدوج على قاعدة الجفرة والهلال النفطي في الوقت نفسه. ومن السيناريوهات التي أشار إليها أيضاً، إمكانية أن يكون التحرك بعدد محدود من الآليات باتجاه بونجيم جزءاً من خطة خداع وتمويه لصرف الانتباه عن الوجهة الحقيقية للعملية التي قد تكون الهلال النفطي وليست الجفرة. وهذا ما قد يفسر التحشيد الكبير الذي يتم في بعض النقاط في مدينة سرت.
وهذا محتمل أيضاً، لا سيما، وأن الهجوم على الهلال النفطي، فيما لو تم تنفيذه بنجاح، سيحقق الهدف الاستراتيجي لمليشيات الوفاق، لأنه سيهدد خطوط إمدادات الجيش، بما في ذلك القوة المتمركزة في الجفرة، من جهة، وربما أجبر القوة المتمركزة في الجفرة على إخلاء مواقعها والعودة للدفاع عن الهلال النفطي. مما يسهل عليها استعادة السيطرة على الجفرة بتحريك الخلايا النائمة في المنطقة، بنفس التكتيك الذي اتبع في غريان، وباندفاع سريع لقوات مؤللة أخرى من مصراته وسرت ومناطق أخرى قد يصعب توقعها الآن.
من ناحية ثالثة، سيحقق السيطرة على الهلال النفطي أهم أهداف المليشيات وهو السيطرة على منابع النفط، الهدف الحلم الذي طالما راود خيالاتهم منذ العام 2014، وبالتالي السيطرة على كل البلد وأعادتها إلى حضيرة الخضوع والطاعة للإسلام السياسي ومليشياته.
وانتهى الخبير إلى القول بإنه يعتقد يأن المليشيات طالما قررت المغامرة والمجازفة، فإن هذا السيناريو يبدو الأكثر احتمالية، لأنه يحقق لهم الكثير، فيما لو أفلحوا. لكن الخبير العسكري الذي سألته البوابةـ استبعد قيام المليشيات بهجوم مزدوج، مبرراً ذلك بالصعوبة، إن لم تكن الاستحالة العملياتية.
وأردف قائلاً: إن القيام بهكذا هجوم يتطلب حشد إمكانيات ضخمة قد يصعب على مليشيات مصراته وحلفائها تأمينها في الوقت الحاضر كما أن المليشيات لن تغامر بالإفراط بالتمدد، لأن ذلك يهدد تماسكها العضوي، وأمن خطوط إمداداتها التي ستكون عرضة للعطب في بيئة غير موالية. وهذا يصدق كذلك على احتمالية الهجوم على الهلال النفطي الذي لن يكون سهلاً بسبب تأمينه بقوة لا بأس بها وحراسته بدوريات القوة الجوية بشكل مستمر.
وأضاف الخبير، إن المتابع لكثير من المحللين الموالين للوفاق والميليشيات يلاحظ إلحاحهم في الدعوة للهجوم على الجفرة وإلسيطرة عليها، الذي يعتبرونه أهم بكثير من الهجوم على ترهونة. لأن الهجوم على الأخيرة، كما يقولون، سيكون مكلفاً جداً، وغير مضمون النتائج، بل ربما أدى إلى انهيار المليشيات كلية وقلب الطاولة على الوفاق وقواتها.
أما سقوط الجفرة، في نظرهم، يجعل ترهونة في حكم المحاصرة والساقطة فعلياً وواقعياً، ويقطع الإمدادات عن القوات المتقدمة في المحاور، ويساهم في سرعة اندحارها.
وهذا قد يكون أحد الدروس التي استفادها الحشد المليشياوي من عملية استرداد غريان التي لم تقدم أية قيمة إستراتيجية مضافة لقوات الوفاق، بقدر ما زادت الأعباء علىها. وتابع الخبير قائلاً.، إن مناورة المليشيات هذه تستهدف الجفرة حصرياً لأسباب كثيرة من أهمها سهولة التحرك وسهولة وصول الإدادات عبر الطرق الصحراوية الخالية. وما انفكت المليشيات تسعى للهجوم على قاعدة الجفرة، وقد استخدمت القصف الجوي المتكرر، الذي فشلت موجته الأخيرة.
وينبغي التذكير بأن دعم حكومة ومليشيات الوفاق لهجوم المليشيات التشادية على مرزق كان هدفه الأساسي إجبار غرفة عمليات القوات المسلحة على اتحريك القوة المتمركزة في الجفرة لدعم وحدات الجيش المدافعة عن مرزق. الخطوة التي حدثت، لتمكنت المليشيات المتواجدة في سرت من الاندفاع بأقصى سرعة والسيطرة على القاعدة وفرض أمر واقع جديد بقطه الطريق على قوات الجيش هي الغرب والجنوب معاً، لكن القوات المسلحة، بكوادر عملياتها الكفرة ومصادر معلوماتها، كانت تعي هدف المليشيات الخبيث، ولذلك خيبت آمالها. واختتم الخبير تحليله بالقول، إن القوات المسلحة العربية الليبية واعية لما تخطط له المليشيات، وهي ترصد تحركاتها وتتعامل معها حسب ما تقتضي الضرورة، وحسب الخطط المعتمدة. لكنه عاد وأكد على أهمية أن تؤخذ كل الاعتبارات في الحسبان، وألا يترك شيء للمصادفة، وألا تغفل قوات الجيش عن مناورات المليشيات، ولو لبرهة. وألا تعطي القوات المسلحة أية فرصة للميليشيات لبناء رؤوس الجسور التي تحاول تثبيتها، وعليها ألا تمنحها الفرصة لالتقاط الأنفاس.
وختاماً اعتبر الخبير العسكري، وهو متقاعد منذ العام 2011، أن كل مناورات الميليشيات هذه ليست إلا مؤشراُ على تضعضع وضعها، وارتباك خياراتها، وحالة اليأس والقنوط التي بدأت تعصف بها وتؤثر على سلامة قراراتها. وهذا الحال سيجعلها تقع في أخطاء قاتلة ستودي بها في النهاية. "إنما صنعوا كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى"..