عندما يدخل رجلُ الدّين السياسة و هو القائم على أمر المُقدّس و ينغمس فيها بلوثاتها الكَثيرة و يتخندق مع فصيل دون آخر في معاركها اليوميّة التّفصيليّة الموسومة بتغيُّر دائم وعدم إستقرار المعطيات و لا ثبوت النتائج بحكم طبيعتها "اللاعلميّة" أولاً و إرتباطها العضوي ثانيًا بمصالح غير ثابتة و بموازين قُوى و أطراف خارج المشهد قد لا يدركها رجل الدّين بالضرورة و قد لا يمتلك داخل جهازه الفقهي/الدّيني آليات تحليلها و تفكيكها ,و عندما يتخلّى رجل الدّين عن دوره التّجميعي التوفيقي المرجعي بإعتباره الممثّل للقاسم المشترك الأكبر و الأخطر و الأقدار في نفس الآن على تشكيل الوعي الجمعي و توجيهه داخل مجموعة بشريّة معينة ,ليأخذ في المقابل موقفًا سياسيًا تفصيليًا منحازًا يسوّقه بإسم مرجعيّته ليخدم به فريقا وطرفًا داخل هذه المجموعة عينها ,فلا يمكن حينها للنتائج إلاّ أن تكون غير محمودة ,فلا الدّين بطبيعته المُقدّسة سيبقى بعيدًا عن مستنقعات المُدنّس و الصّراع على الدّنيوي المادي العابر و الفاني ,و لا رجل الدّين سيحفظ مرجعيّته الجامعة ,و لا معارك السياسة نفسها ستُحسم إذا لم تتعمّق أكثر بفعل تغيُّر المفاهيم التي قد تُحوّل صراعًا طبيعيًا عن السّلطة الى معركة مقدّسة من أجل الدّين و الدّفاع عن "المُقدّس" و "الحق" و إلى "جهاد" ضد المؤمنين أنفسهم الذي يخالفون طرحًا بشريًا نسيبًا لقضيّة سياسيّة أرضيّة و ظرفيّة .
و يوسف القرضاوي هُو أحد رجال الدّين الذي يُقدّمون أنفسهم و تسوّقهم بعض وسائل الإعلام على أنّه أحد أكبر مرجعيات "الإسلام السنّي" في التاريخ العربي/الإسلامي المُعاصر إذا تجاوزنا طبعًا –وعن قصد- طرح البعض حين يضعونه المرجع الأول و الأكبر و قد يذهبون بالوصف إلى أقاصيه ليقولوا أنّه أيضًا الوحيد !
و القرضاوي هو أيضًا رجل الدّين الذي إختار إقتحام معارك السياسة التي دخلها باكرًا ,و إختار الإنحياز فيها إلى فصيل بعينه دون آخر ,و هو كذلك الذي لم تسلم مواقفه الدّينيّة و فتاويه من التذبذب و التحوّل الحاد و غير المفهوم و غير المُبرّر في أحيان كثيرة من النّقيض إلى النّقيض بفعل إرتباطها بالسياسة و مواقفها غير الثّابتة و الأجنداتها المُتغيّرة و المُتحوّلة ,فالقرضاوي -رجل الدّين/المرجع- هُو نفسه الذي إمتدح الرّئيس التّونسي السّابق بن علي على هامش حضوره لإحتفاليات "القيروان عاصمة للثقافة الإسلاميّة 2009" حيث قال و اصفًا هذا الأخير و متحدّثًا عن خطابه بالمناسبة :"كان خطابا كاملا وذكر بمعاني مهمة في ثقافة الأمة وأبرز أيضا العناية بالثقافة الإسلامية، وهي عناية يلمس آثارها بدون شك كل من يزور تونس سواء من الناحية العمرانية أو من خلال النهضة العامة وخصوصا البنية التحتية وكذلك من خلال الاهتمام بالإنسان خصوصا في المجال التعليمي والمجال الصحي. إن هذه الأشياء تحمد لتونس ولسيادة الرئيس زين العابدين بن علي فضلا عن الاهتمام بالجانب الديني".(1)
و القرضاوي هُو نفسه الذي إحتفل في السّفارة الليبية بالدّوحة بالذّكرى الثامنة و العشرين و الواحدة و الأربعين لــ"ثور الفاتح من سبتمبر"و قصّ بيديه قطعة الحلوى الكبيرة التي صُنعت بالمناسبة و هو أيضًا الذي لم يتأخّر عن وصف العقيد القذافي خلال زيارته لليبيا في عام 2003م بــ"الأخ قائد الثورة صاحب التحليلات العميقة والواضحة لمجريات الأحداث" .
و القرضاوي هو كذلك الذي إمتدح بشّار الأسد و مواقفه السياسية و بشّره في لحظة من الكرم اللغوي المُتعاطف بأنّهم "سيتآمرون عليه" ,شاكرًا دعمه للمقاومة و الوقوف في وجه أمريكا و إسرائيل (2) قبل أن يعود بعد ذلك حين تغيّرت أوراقات السياسة و تبدّلت مواقفها و أجنداتها ليُفتي بقتل بشّار الأسد و بضرورة الجهاد ضدّه تمامًا كما أفتى قبل ذلك بهدر دم العقيد القدّافي " صاحب التحليلات العميقة والواضحة لمجريات الأحداث" و ليصير القرضاوي الذي أكل من كل الموائد واحدًا من أكبر منظّري "الربيع العربي" من تونس الى سوريا مرورًا بمصر و ليبيا و اليمن .
ماذا تقول العرب في "من شكر و ذمّ" ؟ و ماذا تغيّر في هؤولاء الرّؤساء الذين إلتقاهم و صافحهم و أكل على موائدهم و مدحهم حتّى بما ليس فيهم لتتغيّرَ مواقفه منهم بهذه الحدّة ؟ أم هي تبدّلات السياسة و أجنداتها التي تدفع رجل الدّين المُتورّط في لعبتها بأن يستنبط حكمين متضادين لنازلة واحدة ؟ و القرضاوي الذي تحصل شاكرًا ممتنًا على جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم في دورتها عام -1421/2001 في دول الإمارات و قبلها في العام 1999 على جائزة سلطان العويس الثقافية (3) ، أطل من على منبره بالدّوحة يوم الجمعة يوم 31 يناير 2014 ليقول بــ:" أن الإمارات تقف ضد أي حكم إسلامي، وتسجن المتعاطفين معه". لسبب واحد سياسي و ليس ديني و هو أنّ الامارات وقفت مع الجيش و الشعب في مصر ضد الإخوان و لأنّها فكّكت و حاكمت تنظيمًا اخوانيًا كان ينشط بسريّة على أرضها ليصرّح القرضاوي في 4 مارس سنة 2012 بعد تفكيك الامارات لخلية إخوانية سريّة بأنها –أي الإمارات- متحيزة ضد الإخوان واضفًا محاكمات الإخوان فيها بأنها غير عادلة.
في هذا الباب من تذبذب مواقف القرضاوي و تناقضاتها المتقلبة يقول الباحث المصري هاني نسيرة :" ومن تناقضات و تقلبات القرضاوي كذلك موقفه من إيران وحزب الله، فهو هو من سبق أن دعم حزب الله في حرب تموز 2006، ودافع بشراسة عن مواقفه وعن زعيمه السيد حسن نصر الله، حتى انتشر في العالم السني حينئذ ما عرف بالتشيع السياسي وليس المذهبي، إعجابا وتقديرا بحزب الله وزعيمه، كان القرضاوي أول مروجيه وداعميه، وجعل ذلك واجبا شرعيا على مختلف المسلمين، كما احتفظ بتحالف وثيق مع المراجع الايرانية منذ أن زار طهران عام 1988 وحمل على عاتقه دعوى التقريب بين السنة والشيعة من أجل الوحدة الإٍسلامية، وأثنى على الخوميني والثورة الإيرانية واعتبرها الإنجاز والتأثير الكبير على الصحوة الإسلامية في العالم، كما دافع بشراسة عن حزب الله الذي وصفه "إسرائيل كسرت على يد حزب الله ومن يساند حزب الله" في إشارة لنظام بشار الأسد وإيران! التي نالهما جام غضبه منذ عام 2008 مع قضية التبشير الشيعي وهو ما زادت هوته بقوة بعد عام 2011 والثورة السورية "(4)
القرضاوي واجهة "الوسطيّة" الفقهية :
يُعتبر القرضاوي أحد أبرز الوجوه الدّينيّة "المُتلفزة" في العالم العربي من خلال برنامجه الأسبوعي الشّهير على قناة الجزيرة الفضائيّة "الشريعة و الحياة" الذي نجح فيه الى حدّ كبير في إخراج الفقه الإسلامي من المتون و الكتب المُجلّدة الثقيلة و إنزاله على اليومي/المعيشي في حياة المسلم العادي في تفاصيلها الدّقيقة بلغة مُبسّطة و مفهومة و بطريقة تفاعليّة من خلال الجواب المُباشر على أسئلة المتدخّلين في فترة كانت الدّولة في جل الأقطار العربيّة تحتكر الإعلام و المنابر الدّينيّة و تُسوّق خطابًا دينيًا محنّطًا و جافًا لا يستجيب لحاجة المسلم اليومية و النوازل الطارئة عليه ،فكان ذلك أحد العوامل الأكثر تأثيرًا في صناعة الإسم الإعلامي الكبير للقرضاوي حيث كان المواطن العربي الهارب من جفاف الخطاب الإعلامي و المنبري/الديني الرسمي يبحث عن تفاعليّة فقهية/اعلاميّة تعالج مقتضيات حياته اليوميّة و تتوسّل تبسيط المعاجم الفقهيّة و تنزيلها على واقعه المعيشي بحوادثه المتنوعة,و كان القرضاوي قبل ذلك قد ظهر و منذ خمسينيات القرن الماضي كأحد أبرز وجوه المدرسة التيسيرية في الفقه التي تبناها الإخوان المسلمون في تلك الفترة من أجل تقريب الفقه من "العامة" وتبسيط مفاهيمه و أحكامه و هي المدرسة الدّعوية التي نجحت في أن تُخرج الفقه من الشأن الخاص إلى الشأن العام، وكان قد بدأها سيّد سابق بكتابه "فقه السنة" الذي وضعه بتكليف من مؤسس الجماعة حسن البنا وقدّم له بمقدمة تحتفي به وتعرف بأهميته. وإذا كان سيد سابق هو السابق فعلا فقد كان القرضاوي الأشهر بين فقهاء هذه المدرسة والأكثر قدرة على التجديد والاستمرارية، وقد كانت بدايته مع كتابه الشهير "الحلال والحرام في الإسلام" الذي أصدره عام 1959، فكان أول وأشهر كتبه التي عرّفت به في العالم الإسلامي و على نطاق واسع.(5) في هذا الكتاب تناول القرضاوي بأسلوب لغوي بسيط و مفهوم و قريب من إدراك المسلم العادي و الباحث عن الأحكام الفقهية في تفاصيل حياته اليومية التي بدأت تشهد تطوّرا في علاقةٍ بالتقدم التقني و العلمي الذي يشهده العالم و مع بروز ظواهر و علاقات و تنظيمات اجتماعية جديدة حيث تكلّم في كتابه هذا عن مسائل ذات علاقة بشؤون يومية تمس كل شرائح المجتمع فمن البيع و الشراء و علاقات التجارة و الربا ورؤوس الأموال و نسب الربح و الغش و القروض إلى مسائل التأمين و الملكيّة و الزراعة مرورا بالزينة و اللباس و صولا إلى العقائد و العائدات و التقاليد و حتى إلى قضية فلسطين بحساسيتها الدّينية و العاطفية في الوجدان الشعبي العربي ,كان المسلم البسيط يستطيع أن يجد في صفحات الكتاب معظم ما يريد معرفته عن الحوادث الطارئة في حياته و معاشه و شؤونه اليوميّة.
يقول الباحث الراحل حسام تمام :" سيستمر القرضاوي في توجهه هذا خاصة بعد القبول الحسن الذي لاقاه كتابه (الحلال والحرام في الإسلام) وستتوالى كتاباته التي تبسط مسائل الفقه وتقربها للقارئ غير المختص فيصدر له (فقه الزكاة) في مجلدين، ثم (فتاوى معاصرة) في ثلاثة مجلدات.. ثم يخصص سلسلة كاملة لهذا الغرض سماها سلسلة تيسير الفقه أصدر منها: الصيام، الطهارة، أصول الفقه الميسر.. " (6)
هكذا حرصَ القرضاوي على إتخاذ موقعه هناك كأبرز وجوه المدرسة التيسيرية في الفقه التي إعتمد عليها كثيرا –كما ذكرنا- الإسلام الحركي و على رأسه تنظيم الإخوان المسلمين لتوسيع قاعدته الجماهيريّة مستغلا نفور "العامة" من المؤسسات الدّينية التقليديّة و الخطاب الاعلامي و المنبري التي يُسوّقه بلغة جافة و مسقطة و متعالية عن الواقع المعيشي النظامُ الرسمي في العالم العربي .فعبر برامجه الإذاعية كــ"نور الهداية" و برامجه التلفزية "الشريعة والحياة و "هدي الإسلام" و عبر خطبه المنبريّة و كتبه العديدة و المتنوعة في كل المجالات تمكّن القرضاوي في العقود الثلاثة الأخيرة من رسم صورة له تستجيب لعطش و حاجة و رغبة عامة المسلمين السنة في العالم العربي الى خطاب بديل ميسّر و مفهوم و قريب و تفاعلي ,الشيء الذي حوّله الى شخصية "نجومية" بالمعنى الجماهيري و بمعناها الاعلامي و حتى التسويقي/التجاري .
و نجاح القرضاوي في تسويق صورته هذه التي حرص على وسمها بـ"الوسطيّة" يعود الى طبيعة تكوينه العلمي أوّلا حيث بدأ القرضاوي دراسته في كتاتيب قرية ( صفط تراب )، أين تمكن من حفظ القرآن الكريم ، ثمّ درس الابتدائية والإعدادية والثانوية في معهد طنطا الديني، وتخرج في كلية أصول الدين بالأزهر عام 1952، وكان الأول في الكليات التي درس فيها بالأزهر: كلية أصول الدين حيث حصل على العالِمية الأزهرية، وكلية اللغة العربية.
كما حصل القرضاوي على دبلوم معهد الدراسات العربية العالية التابع للجامعة العربية في اللغة والآداب، والدراسة التمهيدية العليا المعادلة للماجستير في شعبة علوم القرآن والسنة من كلية أصول الدين ثم على الدكتوراه في الحديث وعلومه وذلك عام 1973م. ويعود هذا النجاح ثانيًا الى تنوّع مجالات إختصاصاته العلمية و المعرفية بين الفقه و التاريخ و العقيدة و الأدب و ثالثًا –وهذا الأهم- الى قدرته على تجاوز الخطاب التقليدي القديم بمؤسساته الرسميّة و جرأته الكبيرة على تحطيم ما بدا كأنّه مسلّمات ثابتة حتى داخل الحركة الإسلاميّة نفسها حيث ذهب في بعض المواقف الفقهية إلى مخالفة مرشده حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان عندما أباح للمرأة النشاط السياسي و أقرّ لها بالحقوق السياسية كاملة بما فيها حق الإنتخاب و حتّى الترشّح على خلاف حسن البنا الذي كان يرى عكس ذلك تماما و قد ألّف القرضاوي كتيبًا عن "مركز المرأة في الحياة الإسلامية" كان له الأثر البالغ في ترسيخ صورة للرجل متسامحة و "وسطيّة" في مسائل و قضايا ذات علاقة بالمرأة المسلمة .كما كانت للقرضاوي فتاوي فقهية خرجت عن التصوّر السّائد قبله ففي إذاعة البي بي سي العربية –مثلاً- أعلن القرضاوي أنّ غناء المرأة ليس حراماً طالما كان الكلام الذي تقوله مباحاً وطيباً، واستشهد بأغنية «ستّ الحبايب» لفايزة أحمد قائلاً: «حينما أسمع هذه الأغنية لا تثير فيّ إلا مشاعر الحبّ لأمي، فما الضرر من سماع هذه الأغنية مثلاً والأغاني التي ليس بها خلاعة ولا إسفاف؟» متجاوزا بذلك الكثير من الفتاوي السّابقة التي تعتبر "صوت المرأة عورة" وفي برنامجه الديني على قناة الجزيرة أفتى القرضاوي بجواز صبغ شعر الرجل الشابّ بالسواد، مخالفاً بذلك رأي أغلب الفقهاء المتقدّمين والمتأخرين الذين يستندون على الحديث الوارد عن الرسول عليه الصلاة والسلام: «يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنّة». ويرى القرضاوي أنّ الغاية من تحريم صبغ شعر الرجل بالسواد هو النهي عن التدليس والغشّ، أما إذا كان الرجل شابّاً وقد غزا شعره المشيب قبل أوانه فلا بأس من صبغه لانتفاء التدليس في مثل هذه الحالة. (7)
هذه العينة من الفتاوي المتجاوزة للخطاب التقليدي الموروث ،نجحت في تسويق و ترسيخ الصورة "الوسطيّة" للقرضوي و ساهمت بصفة كبيرة في "نجوميته" الإعلامية و الجماهيرية،إضافة إلى أحد العناصر الهامة كذلك التي أسهمت في نحت هذه الصّورة الإعلاميّة الباهرة للقرضاوي و هي تناوله لمواضيع ذات حساسيّة في المجتمع العربي المحافظ و المغلق على قيم الحياء و الحشمة في معناها الاخلاقي التي تجعله متحفظا على اقتحام مواضيع كالعلاقات الجنسية خارج الفضاءات المغلقة تلك المسائل التي تناولها القرضاوي بجرأة كبيرة تحسب له في مؤلّفه "فتاوي معاصرة" و في حلقات كثيرة من برنامجه "الشريعة الحياة" حيث تطرّق القرضاوي الى مسائل دقيقة و حميمة في العلاقات الزّوجية و الجنسية الشيء الذي وسّع قاعد جماهيريته في مجتمعات متلهفة بطبعها لطَرق مثل هذه الأبواب من المسكوت عنه و اقتحام هذه المناطق الحمراء المُزاحة الى خارج دوائر الضّوء.
و في المجمل نجح القرضاوي في تسويق نفسه داخل قالب "الفقيه الوسطي" التي ينتهج مسلك التيسير لا التعسير ,و التبشير لا التنفير حتّى أنّه صرّح في في 20 أبريل 2009 بأنه "يكتم اجتهادات فقهية وفتاوى حول قضايا معاصرة تجنبا لتشويش الجماهير عليه، مشيرا إلى أنه أخفى فتواه بجواز مصافحة الرجال للنساء الأجانب عند الاضطرار وأمن الفتنة لعدة سنوات والتي نشرها في الجزء الثاني من كتابه فتاوى معاصرة" (8) كما نجح كذلك بحرفية كبيرة في إتقان صناعة إسمه "الإعلامي" و استغلال فضائية الجزيرة التي كانت تحظى في السنوات الأولى لإنطلاقها بنسبة مشاهدة عالية جدًّا في العالم العربي الشيء الذي مكّنه من أن يكون احد أكثر الشخصيات الإسلاميّة تأثيرًا حتّى فترات قريبة .
القرضاوي/إبن الجماعة تشنُّج الخطاب و "راديكالية" الموقف السياسي :
غير أنّ هذه "الوسطيّة الفقهيّة" التي نجح القرضاوي في تسويقها ,لم تكن في الحقيقة غير واجهة ناصعة لخلفيّة سياسية راديكالية داكنة ,تهاوت مع أوّل التعرجات الحادة في التاريخ العربي المُعاصر و المقصود هنا هو ما سمّي "الربيع العربي" الذي تداخلت عناصره و غمضت سياقاته حتّى صار ضبابيا عصيا على التحليل و القراءة العلمية السّليمة ,و ليس أدلّ على هذا الغموض و تعسّر الفهم من مواقف القرضاوي نفسه الذي أتقن حتّى اللحظات الأخيرة قبل "الربيع" فن تلميع الحُكّام و مدحهم و الأكل على موائدهم ,قبل أن يتحوّل هؤولاء في رأيه و في لحظة ثوريّة منفعلة إلى "طُغاةِ" و "كفّار" و "مارقين عن الدّين" ,و كأنّ هؤولاء الحكام أنفسهم لم تكن سجونهم قبل ذلك مليئة بالألاف من الضحايا و خزائنهم بالمليارات من أموال الشعوب المنهوبة و كأنّهم حين مرّ القرضاوي على خيامهم و مضاربهم و حين كتب فيهم المدائح المتجاوزة حتى لما يريدون هم أن يُقال فيهم , لم يكونوا حينها "طُغاة" .
لقد عرّى "الربيع العربي" القرضاوي تمامًا و أسقط عنه و في مرّة واحدة كلّ الأوراق التي طالما حرص على تثبيتها في واجهة صورته الإعلامية و المرجعيّة الباهرة ,و كشف عن تناقضات خطابه و تبدّلاته الحادة الغير مفهومة خارج سياق إرتباطها بلعبة السياسة و لوثاتها التي لا تليق بحكم لامبدئيتها برجل دين عادي ,فمابالك برجل دين/مرجع .
و في المُقابل بدا القرضاوي و كأنّه ينتظر هذه اللّحظة الفارقة في تاريخ الأمة العربيّة ,ليستثمر كلّ رأسماله الدّيني/المرجعي الذي إشتغل على تضخيمه بنجاح طيلة عُقود في خدمة مشروعه السياسي الذي تبنّاه منذ سنوات الشباب البعيدة فالقرضاوي "هو ابن خالص لحركة الإخوان المسلمين، فلم يعرف عنه انتماء حركي أو فكري لغير جماعة الإخوان ومدرستها، كما لم يعرف له خروج صريح منها أو عنها. وقد عرف القرضاوي بحركة الإخوان ربما بالقدر الذي عرفت به، وارتبطا معا في كل مراحل العمر كأنك تقرأ تاريخها حين تقرأ مذكراته التي صدرت في ثلاثة أجزاء حتى كتابه هذه السطور؛ وكأنه يكتب عن نفسه حين يؤرخ للجماعة في كتابه: الإخوان المسلمون سبعون عاما في الدعوة والتربية. يقترب عمر القرضاوي من عمر الإخوان (ولد في عام 1926 وتأسست الجماعة بعد ميلاده بعامين) وتاريخه في الدعوة يكاد يتطابق مع الفترة الأبرز في تاريخ دعوة الإخوان"(9)
لذلك كان "الربيع العربي" بضبابيته المُضَلّلة و غموضه المُبهَم فرصةَ القرضاوي السانحة لتمرير مشروعه السياسي المُنخرط فيه منذ عقود و هو مشروع جماعة الإخوان المسلمين التي تربّى فيها و ناضل داخلها و دفع من أجلها سنوات من السّجن و ساهم بشكل كبير في تشكيل جهازها الفكري و المفاهيمي و صاغ الكثير من أدبياتها و كتب عنها و خطب باسمها و دافع عنها في كل المنابر و المحطات التاريخية ,فالمتتبع لمسيرة القرضاوي العلمية و السياسية لا يكاد يخطأ هذا التلازم التام بين مساره الشخصي بوجهيه الدّيني و السياسي و مسار الجماعة ,حتّى أنّه لم يعد يخفى على أحد أنّ البوصلة الوحيدة للقرضاوي أصبحت هي مصلحة الجماعة و تحقيق هدفها في الوصول الى السلطة و البقاء فيها ,فالقرضاوي –مثلاً- كان قد وجّه رسالة الى د.أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف على خلفية بيانه المساند لحراك "الربيع العربي" في يناير العام 2011 حيث ثمنت رسالة الشيخ القرضاوي بيان الأزهر الذي " تضمن تأييد الشعوب العربية في المطالبة بحقوقها المشروعة في تحقيق الحرية، واحترام حقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع، والتي قررتم فيها أن أي مواجهة لاحتجاج سلمي بالقوة والعنف هو نقض لميثاق الحكم بين الأمة وحكامها.. إلى آخر ما أعلنتموه للناس في هذه الوثيقة المباركة" ليضيف القرضاوي كذلك مشيدا بموقف الإمام الأكبر:" فضيلة الإمام الأكبر: هذا هو الموقف المنتظر من الأزهر الشريف، المعهد العتيق الذي حمل راية الإسلام لأكثر من ألف سنة، وهذا هو الموقف المنتظر من إمامه الأكبر أخينا الدكتور أحمد الطيب، الذي نرجو أن يستعيد الأزهر مكانته القديمة تحت لوائه، والذي تثبت مواقفكم الكريمة يوما بعد يوم أنكم إن شاء الله فاعلون".(10) ,و ليعود القرضاوي نفسه بعد ذلك و في سياق مشابه حين خرج الملايين من الشعب المصري ضد حكم جماعة الإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013 و بعد إنحياز الأزهر و علمائه الى الحراك الشّعبي الرافض لمحمد مرسي ليهاجم الأزهر و شيوخه بحدّة كبيرة واضحة حيث لم تتوقّف منذ ذلك الحين بيانات القرضاوي المتهجمة على الأزهر " العتيق الذي حمل راية الإسلام لأكثر من ألف سنة " و مشايخه الذين لم يفعلوا سوى تكرار موقفهم المنحاز للشعب كما حصل في "ثورة 25 يناير" .
فعلى النقيض تمامًا من تلك الرّسالة –كما هو شأن القرضاوي دائما في تناقضاته- لم تتوقف بياناته المتهجّمة على الأزهر الشريف و شيخه د.أحمد الطّيّب بعد 30 يونيو التي أسقطت حسابات القرضاوي السياسية و حسابات جماعة الإخوان و وأدت مشروعهم/الحلم الذي خاضوا من أجله سنوات من المواجهة مع الدّولة المصريّة كلّفتهم عذابات طويلة من تهجير و سجون و ملاحقات أمنيّة , فقد قال القرضاوي على موقعه الرسمي الجمعة، 20 أيلول/سبتمبر 2013، مخاطباً شيخ الأزهر: "لقد كنتُ أظنهم قد غرروا بك، فعلمتُ بقولك أنك ممن أوحى لهم وكنت أحسبك متورطا، فعلمت أنك متآمر وكنت أخالُك خائفا، فعلمت أنك مشارك تكيد لهذه الأمة وتمكر بها، وتتخذ من عمامة الأزهر غطاء لمآربك، وتمويها على المصريين" (11) كما لم يتردّد القرضاوي في مرات كثيرة عن وصف الذين خرجوا عن حكم محمد مرسي بأنّهم كــ"الخوارج" في إشارة الى الطائفة الدّينيّة الشّهيرة التي خرجت على الصحابي الجليل سيدنا علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه إبّان أحداث ما سُميّ في التاريخ الإسلامي بالقتنة الكبرى.
بيانات القرضاوي المتهجمة على الأزهر و شيخه أحمد الطّيب مصبوغة بلغة عدائية تعكس حدّة الشّرخ النّفسي الذي أصاب الرّجل نتيجة خروج جماعته من الحكم ما يعكس بالتالي حجم الخيبة التي تأسست على حلم كبير بحجم حكم دولة كمصر و ربّما دول أخرى بعقيدة إخوانية واحدة ,هذه البيانات الصادرة على القرضاوي كثيرة و متشنّجة حدّ الإرتباك الى حدّ أنّه إتّهم الشيخ الطّيب بإستدعاء الأمن للقبض على الطلاب في ما يعرف بقضية "ميليشيات الأزهر" في حين كان الإمام الأكبر جنبه في تلك اللحظة في مكّة المكرمة يحضر معه مؤتمرا فى جامعة أم القرى، عن «الوقف فى الإسلام» !!
مواقف القرضاوي الراديكالية هذه في السياسية لم تعد فقط مصدرًا من مصادر التفرقة بين أبناء الشّعب المصري الواحد و زيتًا مسكوبا على نار الفتنة المشتعلة في البلاد و التي قادرًا كان بحكم ثقله المرجعي الذي كان يتمتّع به قبل ذلك على أن يساهم كما فعل الأزهر في مرات كثيرة قبل 30 يونيو ,في إطفائها باكرًا و العمل على الدّفع نحو الحوار لا الصدام ,بل أكثر من ذلك صار القرضاوي مصدرًا ن مصادر تعكير صفو العلاقات بين الدّول العربيّة فمصر تحتج على تصريحاته لدى قطر و تطالب بتسليمه في تهم قضائية ,و الإمارات كذلك تحتج على تصريحاته المتهجمة عليها ,كما لم يعد يخفى على أحد دور القرضاوي في توسيع الشّرخ بين الفلسطينيين من خلال دعمه لحركة الحماس على حساب فتح الشيء الذي لا يمكن أن يخدم أبدًا القضية الفلسطينية بأي وجه من الوجوه و لا يخدم سوى المشروع الإخواني الأممي الذي تمثّل حماس في غزّة ذراع من أذرعته الكثيرة .
الهــــــــــوامش :
--
1-(الرابط : http://www.youtube.com/watch?v=Ic_stjvM_Hk)
2-(الرّابط : http://www.youtube.com/watch?v=6V6nTPuL9oQ)
3-الرابط الى الجائزة : http://www.quran.gov.ae/index.php?view=ip&perId=4
4-هاني نسيرة : معارك القرضاوي: التناقضات والتحولات من الشرعي إلى السياسي ،معهد العربية للدراسات
5-حسام تمام :القرضاوي و الإخوان ..قراءة في جدلية الشيخ و الحركة
6-حسام تمام ،مصدر سابق
7-موقع "إيلاف" الثلاثاء 12 أكتوبر 2010
8- إسلام أون لاين :القرضاوي: أكتم بعض الفتاوى تجنبا للتشويش، 21 أبريل 2009
9-حسام تمام ,مصدر سابق
10-إسلام أون لاين : رسالة من القرضاوي للإمام الأكبر تبارك موقفه من الربيع العربي
11-سي أن أن العربية : القرضاوي يهاجم الطيب ويدعو لـ"تطهير" الأزهر الجمعة، 20 أيلول/سبتمبر 2013