مازالت الهيئة التنظيمية (التعديلية) لقطاع الإعلام المرئي والسمعي في تونس بعد تسعة أشهر من بعثها غير قادرة على فرض سلطتها ووضح حد للفوضى والتسيب والفساد في القطاع ما ينذر بمزيد تأزم الوضع وقد يؤثر مباشرة على نزاهة ونتائج الانتخابات العامة المنتظرة في تونس.

لم يكن قطاع الإعلام طيلة عقود من الدكتاتورية والتخلف في تونس يحظى بأي هامش من الحرية أو من الاهتمام أو من المصداقية وكانت النصوص وتشريعات التي تنظمه، مثل غيرها من النصوص المنظّمة لكل الأنشطة والقطاعات، لا معنى لها ولا وجود على أرض الواقع.

وقد عرفت المجالات السياسية والإعلامية والجمعياتية منذ جانفي 2011، تاريخ سقوط النظام الكلياني المستبد، حراكا ونقاشات عديدة حول سبل إخراج الإعلام التونسي من الرداءة والجمود ورواسب خدمة الشخص الواحد والحزب الواحد.

لكن القرارات والمبادرات العملية لإرساء نظام تعديلي للإعلام التونسي عموما وللسمعي والمرئي بالخصوص تأخرت كثيرا وكانت ولادة الهيكل التنظيمي المستقل الأول في تاريخ الإعلام التونسي عسيرة جدا سبقتها تجاذبات واختلافات عميقة كانت في مجملها ذات أسس حزبية وإيديولوجية لا علاقة لها بإصلاح الإعلام التونسي وتنظيمه وتطويره.

تعثر جهود التأسيس

أعلن رسميا عن بعث الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي البصري (HAICA) يوم 3 مايو 2013 وذلك بعد أشهر من الخلافات الحادة والصراعات والاتهامات المتبادلة بين أطراف ومنظمات إعلامية وناشطين من جهة، وبين الحكومة وعديد الأطراف (منظمات، خبراء، إعلاميين) رافضين للمرسوم 115، الذي ينظم قطاع الصحافة المكتوبة، والمرسوم 116، المتعلّق بتنظيم القطاع المرئي والسمعي إمّا جملة أو تفصيلا، من جهة أخرى.

عرفت الهيئة، التي أوكلت رئاستها إلى الأستاذ نور الدين اللجمي، وهو مدرّس بالجامعة وخبير في المجال، صعوبات مادية ولوجستية عند انطلاق عملها ثم سرعان ما اصطدمت بالواقع المتعفّن والمعقّد للمشهد الإعلامي عموما والمجال السمعي البصري تحديدا إضافة إلى أن أغلب مكونات هذا الفضاء رافضة أصلا لأي إصلاح جدّي أو تطوير في المشهد الإعلامي بداية من أطره التشريعية والتنظيمية.

جاءت البدايات محتشمة وفشلت الهيئة، لأسباب عديدة ذاتية وموضوعية، في التعامل مع التيار الجارف من التجاوزات المهنية والأخلاقية والتقنية في المحطات التلفزيونية والإذاعية المرخصة وغير المرخصة.

وبحسب خبراء وأصحاب المحطات غير المرخصة، لا تبرر صعوبات الانطلاق واستفحال أزمة القطاع تأخر الهيئة في إعداد كرّاس الشروط الخاص بالاستثمار في المجال السمعي البصري.

ولهذه الكرّاس أهمية بالغة على القطاع برمّته وعلى المستثمرين والعاملين فيه، باعتبارها ستكون الإطار القانوني والإداري الذي سيضبط شروط الاستثمار في الميدان وحقوق كل طرف وواجباته.

ولكرّاس الشروط أهمية خاصة لعديد المحطات التلفزيونية التي تبث دون وجه قانوني (في أغلب الحالات تحت غطاء شركات إنتاج مقيمة بتونس) لأنها بدأت نشاطها في ظل عدم وجود هيكل تنظيمي يمنح هذا الترخيص ومن هذه المحطات التلفزيونية: التونسية، ، المتوسط، الجنوبية، شبكة تونس الإخبارية (TNN)، القلم، تونسنا، تلفزة تي في… وفشلت أخرى في ضمان البقاء وأغلقت أبوابها بنفس السرعة التي انطلقت بها بعد 2011 (قرطاج تي في، تونس العالمية…) بينما أجلت محطات بداية نشاطها رغم الإعلان الرسمي عنه وانطلاقها في توظيف الصحفيين والتقنيين (الحرّة نيوز مثلا).

وبسبب غياب إطار واضح منظّم لنشاطها، تعمل المحطات التلفزيونية والإذاعية غير المرخصة في ظروف صعبة جدا ومنها من اضطر إلى البث من خارج تونس رغم ما يسببه ذلك من صعوبات تقنية وأعباء مالية إضافية بينما اختارت أخرى أن تبيع الإعلانات بطرق ملتوية وغير قانونية.

وتضاف مشاكل البث من الخارج إلى الخسائر الناجمة عن الحرمان من موارد الإعلانات بسبب وضعها المؤقت وهو ما أجبر هذه المحطات التي تنتظر التراخيص القانونية على الحد من عدد الصحفيين والتقنيين والموظفين العاملين لديها والاكتفاء بالحد الأدنى من وسائل العمل الإدارية والتقنية.

هل ثمّة سعي إلى ‘تحويل وجهة’ الهيئة؟

ستساعد كراس الشروط التي طال انتظارها أصحاب المؤسسات المعنية بها على تطوير أساليب عملهم وتشغيل أعداد أكبر من الكفاءات التونسية الشابة التي يعاني الكثير منها البطالة.

وسيمكّن إعداد كرّاس الشروط والإعلان عنه هذه المحطّات من استيفاء الشروط اللازمة للعمل ما يجعلها تؤمّن موارد مالية جديدة ويجعل صحفييها يعملون في إطار مهني قانوني وواضح.

كما ستفتح كراس الشروط باب الاستثمار في المجالين المرئي والسمعي حيث من المنتظر أن تبعث مشاريع جديدة تثري الساحة الإعلامية وتوفر مزيدا من فرص العمل.

في رد عن سؤال حول سبب تأخر الإعلان كراس الشروط الخاصة بالاستثمار في القطاع المرئي والسمعي، أجاب نور الدين اللجمي رئيس الهيئة العليا في حوار تلفزيوني على قناة تي أن أن (وهي من القنوات التونسية غير المرخصة) يوم 24 أغسطس 2013 بالقول أن ذلك سيكون “في غضون أسابيع قليلة جدا، قد تكون أسبوعين أو ثلاثة أسابيع .. ونحن بصدد إتمام الملامح الأخيرة”، لكن خمسة أشهر مرت دون أن ترى كراس الشروط النور ودون أن يستشار المسؤولون عن المحطات المعنية بالمسألة.

حيث يقول جمال الدلالي، المدير العام لقناة تي أن أن، في هذا السياق: “لم تتم استشارتنا ولا سماعنا لإنجاز كراس الشروط التي تهمنا نحن بالأساس، فيما استمعت الهيئة إلى أطراف أخرى أغلبها يمثل مصالح ومجموعات ضغط… لقد راسلناهم بهذا الخصوص أكثر من مرة ولم نتلق أي رد إلى الآن”.

ودعا نور الدين العويديدي، مدير عام قناة المتوسّط، المسؤولين عن الهيئة التنظيمية إلى “فتح نقاش مع المؤسسات المعنية بكراس الشروط” وقال: “نريد أن نكون شركاء في صياغة هذه النصوص وشركاء في تنفيذها فكلما شاركنا في صياغتها، نكون أكثر التزاما بها”.

وطالب صالح الفورتي، مدير إذاعة “كلمة” ورئيس النقابة التونسية للإذاعات الحرة “برفع تحكّم الدولة الأحادي في الترددات الإذاعية ومنح تراخيص البث وفق كراس شروط واضح وشفاف”.

كما دعا إلى إصدار قانون للفضاء السمعي البصري مطابق للمعايير الدولية الضامنة لحرية التعبير.

أمّا منظمة “مراسلون بلا حدود” (RSF) فترى أن ظهور إذاعات جديدة في تونس “أمر ضروري لتطوير وتعزيز وسائل الإعلام والعمل الإعلامي” وعبّرت أكثر من مرة عن دعمها “لإنشاء وسائل إعلام جديدة، خصوصا في مناطق البلاد العميقة”.

وكان “كريستوف  دولوار” الأمين العام للمنظمة  قد استغرب من التأخير في “تحديد كرّاس شروط للإذاعات الخاصة والجمعياتية” وقال أنه “سواء كانت هذه الإذاعات في حالة عجز عن سداد فواتير الديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزي، أو كانت تبث بطريقة غير شرعية، فإنها تشكّل رهانا حقيقيا لحق المواطنين التونسيين في الإعلام وفي تلقي المعلومات”.

مخاوف قبيل الانتخابات

أعاد نورالدين اللجمي يوم 30 يناير/جانفي 2014 خلال ندوة دولية بتونس التأكيد على أنه “سيتم قريبا إصدار كراس الشروط الخاصة بالقنوات التلفزية والإذاعات”.

ووعد اللجمي بتوزيع كراس الشروط “قريبا على مختلف وسائل الإعلام السمعية والبصرية للعمل بها”، مشيرا إلى أنه تم “إصدار عديد الرسائل والتنبيهات لعدد من وسائل الإعلام التي لم تحترم قواعد العمل الصحفي وأخلاقيات المهنة”.

لكن خبراء ومهنيين بالقطاع تحدّث عمّا أسموه “مخاوف جدية” من أن التأخير في إصدار كراس الشروط ناجم عن البحث عن إقصاء طرف معين من المشهد الإعلامي وأعلنوا رفضهم “أي نوع من التمييز قد يحصل بين القنوات التلفزيونية أو أن تخاط كراس الشروط على مقاس أطراف بعينها وضد أطراف أخرى”.

فبالإضافة كل هذه الصعوبات والمشاكل التي تعانيها والتي أثّرت بشدّة على فاعليتها، ستكون الهيئة في مواجهة تحدّ آخر لا يقل أهمية لا فقط على أدائها وعلى انتظارات أهل القطاع والرأي العام فحسب، بل على المشهد السياسي والانتخابي في البلاد في قادم الأشهر.

ويتمثل هذا التحدّي في أن أغلب المحطات التلفزيونية التونسية غير المرخصة تبث حاليا من خارج الأراضي التونسية، أي أنه من الصعب أن تمتثل لتوصيات الهيئة والضوابط التي ستحددها بخصوص تغطية الانتخابات عموما وتحديدا بخصوص تنظيم الحملات الانتخابية بما فيها من توزيع للوقت وساعات البث وغيرها.

ويرى خبراء أن المسارعة في إصدار كراس الشروط “ستمكّن من استيعاب المؤسسات الموجودة وإدخالها تحت طائلة الفانون”.

يقول نور الدين العويديدي في هذا الإطار: “نحن (في قناة المتوسّط) نرحب بكل ما يساهم في تطور الإعلام وجعله تعدديا غير محتكر من أي طرف وكل ما يساعد على تطهيره من المال الفاسد ومن سيطرة رجال الأعمال الذين يتاجرون بالقطاع وحولوا الصحفي إلى عامل لديهم ينفذ ما يأمرونه به لا غير وسنكون نحن أول من سيتقيد بكل هذا”.

ويؤكّد جمال الدلالي على التزام المحطة التي يديرها بالبث من تونس في حال الحصول على الترخيص لأن ذلك أقل تكلفة بكثير ولأنه سيمكّن من بيع الإعلانات.

ولئن كانت أغلب المحطات التلفزيونية جاهزة للامتثال لكرّاس الشروط بما فيها من إجبارية البث من تونس، لأنها الرابح الأكبر من ذلك، فإن البعض الآخر قد لا يمتثل للنصوص المزمع وضعها وسيواصل البث من خارج البلاد وهو ما سيضع الهيئة التنظيمية في امتحان صعب قبل وأثناء الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة في تونس وسيكون تكرار بعض مما عشناه في الانتخابات الماضية كابوسا وانتكاسة للحريات في تونس ما بعد الثورة.

فقد عاشت تونس بمناسبة انتخابات 2 أكتوبر 2011 تجربة سيئة تمثلت في تجاهل بعض الأحزاب والسياسيين لضوابط وقوانين الدعاية الانتخابية وارتكبوا خروقا عديدة شكّلت نقطة سوداء في تلك الجربة الديمقراطية الرائدة.

ولن ينسى التونسيون كيف أن الحزب الديموقراطي التقدمي (المنحل) لرئيسه أحمد نجيب الشابي وحزب الاتحاد الوطني الحر (يترأسه سليم الرياحي) ضربوا عرض الحائط بالقوانين وواصلوا الحملة الانتخابية حتى بعد انتهاء الآجال المسموح بها.

ورغم أن رئيسها عبّر باستمرار عن وعيه بإمكانية تكرار هذه التجاوزات وبإصرار بعض الأطراف على خرق القوانين والأخلاقيات حيث قال في ذات الحوار التلفزيوني المذكور آنفا: “العملية لن تكون سهلة ونطلب التعاون مع كل المتدخلين في المجال السمعي والبصري”، يصعب الجزم بنجاح الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السمعي البصري إزاء ما قد يحدث من تجاوزات من هذا القبيل في الانتخابات القادمة

خصوصا أن المحطات التي عرفت بخرقها للنصوص التشريعية ولقواعد المنافسة الشريفة مرتبطة أشد الارتباط بقوى الثورة المضادة وببقايا النظام المخلوع.

وقد أثار خبراء الأهمية العاجلة لإبرام اتفاقيات رسمية مع دول وهيئات تعديلية وأقمار اصطناعية مختلفة حتى تتمكن الهيئة التنظيمية التونسية من التعامل مع تجاوزات المحطات التي تبث من خارج الأراضي التونسية.

ومع تهاطل التمويلات مشبوهة المصدر على مختلف الفاعلين السياسيين في تونس، سيكون للفشل في تنظيم الدعاية الانتخابية ومراقبة أداء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة نتائج وخيمة قد تصل إلى التلاعب بالنتائج عبر شراء الذمم والأصوات إضافة للتجاوزات المهنية والأخلاقية المعتادة التي قد تزيد حدة باقتراب الاستحقاقات الانتخابية.

وستزيد مسؤوليات الهيئة مع اقتراب كل موعد انتخابي حيث ستكون مجبرة على التعامل مع أطراف نافذة أغلبها من الإعلاميين والسياسيين الفاسدين المتعودين على خرق المواثيق الأخلاقية والصحفية وعلى تجاوز القوانين سرا وعلنا.

ومازالت الهيئة لم تظهر ما يجعل التونسيين يطمئنون لقدرتها على في فرض القانون على كل المتدخلين في مجال عملها بل وفشلت حتى في إبداء موقف مبدئي مما يحصل من تجاوزات فظيعة على المهنة الصحفية ومن تعديات سافرة على الأشخاص وعلى الأخلاق.

كما أن إمكانياتها اللوجستية والبشرية، وفق أخصّائيين في الميدان، لا تسمح لها بمتابعة كل ما يتم بثه وتحليله وتقييمه.

أعضاء الهيئة ورئيسها اشتكوا باستمرار من هذه الصعوبات ومن محدودية صلاحياتهم، لكن هذا لا ينفي عنهم جزءا من مسؤولية تواصل تدهور حال الإعلام المرئي في تونس والخوف أن تكون الهيئة نفسها ضحية لوبيات الإعلام والمال والسياسة في تونس.

*صحفي وباحث في مجال الإعلام من تونس - نقلا عن موقع " راي اليوم"