ذاكرة المكان في تونس تروي الكثير بشأن سجلها الحافل الذي اقترن في بقاع عدة منها بمناهضة الاستعمار، لكنها اليوم تفتح دفاترها واسعا لتضيف إليها سجلات أماكن ببعد جديد يخط سطور ملامحها "بعبع الإرهاب".

وإذا عدنا بالذاكرة إلى السنين الخوالي، فستطفو على السطح أسماء أماكن لمعت في سجالات مناهضة الاحتلال الفرنسي، فمنطقة "مطماطة" على سبيل المثال وهي قرية في الجنوب الشرقي التونسي كانت معقل الفلاقة "الثوار" الذين حملوا السلاح ضد الاستعمار الفرنسي تحت قيادة محمد الدغباجي.

والقصرين أيضا كان لها كلمتها في هذا الإطار، وهي التي تقع في وسط غرب تونس وتحدّها من الشمال "ولاية الكاف" ومن الغرب ولاية تبسّة الجزائرية، ومن الجنوب ولاية قفصة، ومن الشرق ولاية سيدي بوزيد و"سليانة". وتضم "القصرين" أعلى قمّة جبلية في تونس وهي جبل الشعانبي الذي يعتبر امتدادا لسلسلة جبال الأطلس الصحراوي.

وتحتل ولاية" القصرين" المركز الخامس وطنيا على مستوى مساحتها الترابية "8260 كيلومترا مربعا" ويتوزع سكانها في 13 معتمدية وقد ساهمت قبائل القصرين في مقاومة تجاوزات بعض الولاة العثمانيين أثناء الحكم العثماني في الأيالة التونسية حيث كان أغلبهم يمتهنون الرعي وتجارة الحبوب والتمر بين الشمال والجنوب فكان يصعب على الدولة جمع الضرائب منهم.

ثم قامت تلك القبائل بثورة بقيادة علي بن غذاهم الماجري على الوالي العثماني أحمد باي في أواسط القرن الـ19 لقيامه بـ"رفع فاحش"  للضرائب بغية بناء قصر المحمدية على غرار قصر فرساي الفرنسي.

وحطّمت القبائل القصر بعد إفلاس خزينة الدولة ودخولها في ديون أجنبية كبيرة ساقتها إلى الدخول تحت الاستعمار الفرنسي باسم الحماية. وواصلت هذه القبائل مقاومة للاستعمار الفرنسي في مناسبات عدة.

وقد حملت منطقة" ساقية سيدي يوسف"، بالحدود الجزائرية التونسية، ذكريات ماض عريق أيضا، حيث اندلعت أحداث ساقية سيدي يوسف، في 8 فبراير 1958 كرد فعل للدعم التونسي للثورة الجزائرية التي سقط فيها العديد من الشهداء الجزائريين والتونسيين.

وقد لجأت فرنسا وقتها تلجأ إلى أسلوب العقاب الجماعي وذلك بضرب القرية الحدودية الصغيرة، وكان ذلك يوم السبت 8 فبرابر 1958، وهو يوم سوق أسبوعية بقرية ساقية سيدي يوسف ولم يكن المستعمر الفرنسي يجهل ذلك عندما اختار هذا اليوم بالذات للقيام بعدوانه على هذه القرية.

وقد أعطت حادثة الساقية دفعا جديدا للعمل الوطني سواء التونسي أو الجزائري وركزت من جديد أسسه المغاربية إضافة إلى مساندة الرأي العام العالمي الذي دان بالإجماع أشكال الاستعمار التي تمارسها فرنسا بشمال إفريقيا، وكانت بداية النهاية المتمثلة في الضغط على فرنسا داخليا وخارجيا ودفعها للإسراع بحل ما تبقى من المسائل المتعلقة بشمال إفريقيا.

ورغم أن جغرافية الأماكن على حالها إلا أن بروز تحولات الواقع والمتغيرات المتداخلة حولت عدة أماكن من تونس، من حقبة ممتدة من التغني بأمجاد الصمود في وجه الاستعمار الفرنسي إلى الدخول في معتركات التفكير والمناورة ومحاولة الصمود في وجه مد الإرهاب المتنامي في المنطقة.

فقد تحولت حدود دول المغرب العربي إلى حزام من جمر تحف به الأخطار من كل حدب وصوب، بسبب الاضطرابات الأمنية الدائرة في مالي وتونس وبالأخص ليبيا، التي ألقت بظلالها على الدول المجاورة، ورغم  مساعيها لمكافحة الإرهاب إلا أن تونس هي الأخرى تشهد في الآونة الأخيرة تنامي خطير للجماعات المسلحة خاصة على الحدود التونسية ـ الجزائرية.

فعلى وقع العمليات "الإرهابية" لا تزال تونس تعاني من هجمات يشنها مسلحون، يتمركز غالبيتهم في غرب البلاد، لتنتقل "عدوى الإرهاب" من محافظة لأخرى من المحافظات الغربية الثلاث المحاذية للحدود الجزائرية.

وبؤرة التوتر الأولى وهي القصرين حيث يوجد أهم معقل للجماعات المسلحة بجبل الشعانبي المطل على مدينة القصرين مركز المحافظة، تليها محافظة "الكاف" شمال محافظة القصرين، ثم محافظة جندوبة شمال الكاف.

واللافت في مناطق تركز الهجمات الإرهابية، حسب سكاي نيوز، أن المحافظات الثلاث التي تشهد مثل هذه الأحداث جميعها محافظات حدودية تشترك في حدود طويلة مع محافظات شرقي الجزائر.

ولعل حالة الارتخاء وسوء التوقع من قبل الجهات الأمنية التونسية قد سمحت للمجموعة بتنفيذ العمليات المسلحة ومن ثمة العودة إلى جبل السلوم، وهذا الجبل أعلنه الرئيس التونسي منصف المرزوقي في أبريل الماضي منطقة عسكرية إلى جانب جبل الشعانبي وجبل سمامة وجبال أخرى.

وفيما كان ينتظر الجميع إعلان تطهير الجبال من الجماعات المسلحة، توسعت رقعة العمليات شمالا وانتهت بحادثة "هنشير التلة" التي أعطت الشرعية لتسمية جبل الشعانبي بالجبل اللغز، والطريق الوطنية رقم 17 الرابطة بين المحافظات الثلاث كطريق للمسلحين.

ففي تقرير أعدته مجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة دولية غير ربحية وغير حكومية، حول المناطق الحدودية في الربع الأخير من سنة 2013 تم التأكد أن النصف الشمالي من الحدود التونسية ـ الجزائرية، بات منطقة تشهد عمليات تهريب متزايدة لمخدر الحشيش والأسلحة الخفيفة، وهذه الأنشطة تزيد من قدرة الجماعات المسلحة على إثارة القلاقل.

ولعل عمليات الملاحقة والتمشيط الكبيرة التي تشهدها القصرين، دفعت العديد من هذه المجموعات المتحصنة إلى التحرك في منطقة جندوبة، حيث شهدت منطقة الفوازعية والدبة من ولاية جندوبة عدة حوادث لتبادل إطلاق النار.

فعندما يشتد الخناق على مجموعة الشعانبي تهب الخلايا في الجنوب والشمال لإحداث تشتيت لجهود الوحدات الأمنية والعسكرية.

عندما يشتد الخناق على المجموعات الإرهابية في جبل الشعانبي تهب الخلايا في الجنوب والشمال لإحداث تشتيت للوحدات الأمنية والعسكرية التونسية

ولا تزال الجبال مثل "خمير "و"مقعد "وغيرها حتى اليوم المناطق الحاضنة لهذه الجماعات فيما يجد الجيش والأمن صعوبة في التحرك، خاصة وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة استنفار ميليشيات قادمة من ليبيا تتسرب عبر الحدود لتدخل في مواجهة مباشرة مع الجيش والأمن مع التنسيق مع الجماعات المسلحة المتمركزة في ليبيا والجزائر من أجل تشتيت الجهد الدولي عبر عمليات واعتداءات متفرقة.

وقد تداولت تقارير إعلامية أن مجموعات مسلحة اتخذت تلك الجبال معسكرات تدريب منذ أكتوبر 2013، ونفذت عمليتها الأولى في 16 فبراير الماضي، حيث نصب 4 مسلحين متنكرين في أزياء عسكرية بمنطقة أولاد مناع بجندوبة، كمينا لدورية أمنية وقتلوا 3 من الأمنيين ومواطن وجرح آخرون.

كما أسهمت عمليات التمشيط المتواصلة في اكتشاف مخابئ ومغارات استغلتها المجموعات المتمركزة بالجبال وكان شهر يونيو الماضي شهر كر وفر بين المجموعات المسلحة وقوات الجيش والأمن التونسيين.

ففي 02 و03 يونيو 2014 وقع تبادل لإطلاق النار بين الوحدات الأمنية والعسكرية و"خلية متشددة" بمنطقة عين الدبة من معتمدية فرنانة بمحافظة جندوبة، وعثرت وحدات الأمن على مغارة يستخدمها "المتشددون" بمنطقة "عين التباينية" بعين دراهم التابعة لجندوبة وقدرت وزارة الداخلية عددهم بـ10 أشخاص واعتبرت مهمتهم دعم وإسناد المجموعات المتشددة المتواجدة بجبال جندوبة والكاف والقصرين.

عندما يشتد الخناق على المجموعات الإرهابية في جبل الشعانبي تهب الخلايا في الجنوب والشمال لإحداث تشتيت للوحدات الأمنية وتواصلت عمليات التمشيط بجبال فرنانة، وتمكنت وحدات الجيش والحرس الوطنيين من الوصول إلى بعض مخابئ المجموعات المسلحة حيث أفادت وزارة الداخلية التونسية أن "العناصر الإرهابية" هم من التونسيين يدربهم مسلحون جزائريون وينتمون إلى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي.

ويبدو أن "وحش الإرهاب" لا يزال يواصل شق طريقه في جسد الخضراء، خاصة مع نجاح عدة مجموعات مسلحة في استقطاب مجموعات من الشباب التونسي، وقد عزت مصادر أمنية تونسية ذلك إلى تفاقم الفقر والبطالة والحاجة في تلك مناطق، وقد لعبت هذه المجموعات المسلحة على هذا الوتر وتمكنت في مناسبات عدة من استمالة العاطلين عن العمل بالإغراءات المادية.