لدى تعيينه لم  يكن أحد يراهن على نجاحه في مهمته. لكن بعد ثلاثة أشهر من استلامه المنصب أثبت رئيس الحكومة التونسية مهدي جمعة أنه كان في مستوى التحديات.

في السياسة، يحدث أن تجتمع ظروف تحدد المصير. غير أنه لم يكن هناك ما يجعل مهدي جمعة المهندس ، دو الـ 52 ربيعا مهيئا لاستلام الجهاز التنفيذي بعد واحدة من فصول الدراما النفسية تعرف وحدها النخبة السياسية التونسية سرها. جمعة الذي كان وزيرا للصناعة في حكومة علي العريض منذ مارس 2013 حقق المهم في مشواره المهني في فرنسا عند مؤسسة هاتشنسون الشركة الفرعية لمجموعة طوطال داخل وحدة الفضاء والدفاع. تعيينه تم فعليا في الـ 27 يناير 2014. ورث رئيس الوزراء بلدا في عز ركود اقتصادي وأزمة أمنية وحالة استقطاب لم تشهده قبل. هل سيتمكن من تقويمه والقيام بالتالي على النحو الجيد بالمهمة التي أنيطت به بشأن الحوار الوطني- وتنظيم انتخابات منتظرة مبدئيا مع نهاية العام الجاري؟

عن مهدي جمعة كنا نعرف الشيء القليل. ابن مهدية ، خريج المدرسة الوطنية للمهندسين في تونس ، اعتبره البعض عند تعيينه ، محسوبا على النهضة في ضوء شائعات عن أنه ربما ناضل داخل الاتحاد العام التونسي للطلبة (ذو التوجه الإسلامي) سنوات الثمانينات . آخرون جعلوا له قرابات وهمية مع وزراء الترويكا الحكومية. فيما عده آخرون مرشحا لأرباب العمل ووزارات الخارجية الأجنبية ولوبي الطاقة. الحقيقة  غير ذلك. جمعة لم يكن مرشحا لشيء ولم يكن رجل أي جهة. تعرف على رئيس الوزراء السابق حمادي الجبالي خلال معرض مهني نظم في باريس في يونيو 2012. وشهرا قبل ذلك الموعد ، كانت مجلة ليدرز نشرت صورته وهو ما لم يفت معاوني رئيس الحكومة في ذلك الوقت.

 في فبراير 2013 ، اتصل به زميله السابق في مدرسة المهندسين رضا السعيدي الذي لم يلتقه منذ 26 عاما خلت. سعيدي الذي أصبح وزيرا اقترح عليه دخول حكومة التقنوقراط التي فكر الجبالي في وضعها  للخروج من الأزمة السياسية التي انجرت عن اغتيال المعارض شكر ي بلعيد في السادس فبراير 2013.

 رفض جمعة في البداية قبل أن يلين موقفه. المشروع فشل ، واستقال جمعة  ولكن سلفه علي لعريض عاود الكرة، واستسلم جمعة للإقناع. فترة مهمته لن تتعدى 11 شهرا. وحصل على تفرغ من مشغله حتى الخامس عشر فبراير. وبقيت زوجته وأبناؤه الخمسة في باريس.

 مهدي جمعة ونضال الورفلي : ثنائي فعال

حل جمعة إذن بتونس وحيدا في 13 مارس 2013. وأقام في باردو بمقر إقامة والدته. اختار أن لا يلمس حكومته وأن يعتمد على الفرق القائمة. يريد أن يفهم قبل أن يتحرك: حصر المشاكل والخروج بتشخيص. وجد في شخص كاتب الدولة المهندس المعين حديثا كما هو نضال الورفلي البالغ من العمر 37 عاما معاونا وفيا وفعالا.

 شكل الرجلان ثنائيا كفءا واختار التعاطي أولا مع ملفي الفوسفاط والطاقة. يقول أحد هم :" مهدي جمعة أراد إطلاق حوار سريع  مع الشركاء الاجتماعيين. التقى وداد بوشماوي رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية وحسين عباسي الأمين العام الخشن للاتحاد العام التونسي للشغل. تحادثوا مرتين أو ثلاث بالهاتف قبل الاجتماع. جمعة تنقل بنفسه إلى مقر الاتحاد التونسي للشغل.

في تلك الفترة، كانت العلاقات بين النقابة والحكومة متوترة للغاية. الوزير تحرك بدون حسابات أو أفكار خلفية : التشاور الاجتماعي كان جزءا من تكوينه الإداري.

 فوجىء عباسي إيجابيا بهذه الخطوة. "تربط الرجلان علاقة صريحة وبناءة ظهرت قيمتها عندما دخل الحوار الوطني مرحلته النهائية." وزير الصناعة يعرف أيضا كيف يتشبث برأيه. في السادس من يوليو عزل الطاهر خوجة الذي عينه الإسلاميون بداية يناير على رأس شركة الفوسفات في قفصة. وعوضه بتكنوقراط بلا انتماء سياسي.

في الرابع نوفمبر ، وبعد مواجهة حادة دامت بضعة أشهر ، تمكن من ترحيل الرئيس العام لشركة الكهرباء المعين بدوره بمعيار المحسوبية في هذا المنصب الاستراتيجي.

رغم هذه المفاخر يبقى جمعة "غريبا" ، ولم يرشحه أحد للفوز عندما اقترح اسمه لمنصب رئاسة الوزراء. وكان هو مع ذلك ، من عين  رئيسا للوزراء في 14 ديسمبر 2013 . غير أن ثلاثة من أحزاب المعارضة الرئيسية رفضت المشاركة في التصويت. وانسحب ممثل نداء تونس.  

تونس تتأرجح بين ارتياح وحذر. جمعة الذي كان انزوى عن العملية علم بتعيينه عبر الإذاعة."كنت أتمنى أن الأمور سارت بشكل أفضل. كانت لي القدرة نظريا لأرفض أو أقبل . ولكن في الحقيقة لم يكن لدي خيار. رفضي كان سيخلق مشاكل أكثر مما يحلها..ومن الغد دعوت الزعماء السياسيين من جميع الأحزاب للاستماع إليهم والتعرف عليهم وإزالة اللبس، لأنه في الحقيقة  لم يكن لدي من قبل أي اتصال بالأحزاب".

 يمكن لدواليب الحكومة أن تدور الآن

 الاتفاق المبرم  مع المشاركين في الحوار الوطني ينص على أن يتبنى التأسيسي القانون الأساسي قبل أن تصبح استقالة لعريض فعلية. رئيس الوزراء المعين استغل فترة الخمسة وأربعين يوما الممنوحة له للتفكير في ملامح حكومته.

 رغب في حكومة متماسكة ، متجانسة من وزراء مستقلين أكفاء ومستقيمين. فهم سريعا أن عليه أن يدع بجانبه لطفي بن جدو وزير الداخلية المنبوذ من جزء من المعارضة ولكن المقدر من جانب موظفي الأمن . استمرارية الدولة تتطلب ذلك. وأضاف له وزيرا منتدبا مكلفا بالأمن رضا صفار.

وهو بالمقابل عازم على تغيير الرسميين في الحقائب "الملكية". إنه يستكشف و يبحث في كل اتجاه. عند تحديد اختياره يستدعي بنفسه المرشحين الذين حصرهم. شكل قطبا اقتصاديا متينا وعالي المستوى بوزراء متعددي اللغات وأثبتوا جدارتهم دوليا.

 على الورق، نجح اختيار الفريق بسرعة. لكن تبقى هناك عقبة يجب التغلب عليها، وهي ليست هينة. يجب الحصول على تعديل المادة 19 المتعلقة بالتنظيم المؤقت للسلطات. يريد جمعة أن تصبح الأغلبية المطلوبة لإقالة أي عضو في الحكومة هي ثلاثة أخماس الأصوات ،وذلك لتحصين وزرائه من "التصويت المزاجي" في التأسيسي. لا يمكن العمل تحت التهديد الدائم. لكن النواب ترددوا.. صراع قوة دار في ليلة الخامس والعشرين والسادس والعشرين يناير.

من القصر الرئاسي، أعلن جمعة أنه لم يتمكن من تشكيل حكومته بسبب غياب اتفاق على تعديل هذه المادة. انتهى النواب بالإذعان. وفي تلك الليلة كسب جمعة نياشين الجنرال.

أمكن للحكومة التي تم تنصيبها في 29 يناير العمل أخيرا. الأوراش كثيرة : تطبيق خارطة الطريق ومكافحة الإرهاب ، والإقلاع بالاقتصاد.

 وإلى هذه المحاور ذات الأولوية، أضاف جمعة محورا رابعا ، ترميم الصورة الدولية لتونس وإعادة مصداقيتها. وغداة دخوله الحكومة ، زار الجزائر ، ثم كثف الزيارات إلى الرباط ودول الخليج . في الرابع من ابريل استقبل من قبل اوباما في البيت الأبيض. نشاط في كل الاتجهات لتبديد سوء الفهم وحشد الدعم الخارجي لأن صناديق الدولة فارغة. وفي موازاة ذلك ، أبدى اهتماما واضحا بالمجال الأمني.

مهمة معقدة

 حل رئيس الوزراء الجديد ، ضيفا متخفيا لبضعة أيام على شرطة النخبة لمكافحة الإرهاب التي تواجه جهاديي أنصار الشريعة في الخط الأول. هذه المبادرة غير المسبوقة رفعت معنوياتهم.

في الرابع فبراير ، قام "النمور السود" في وحدة مكافحة الإرهاب ونظراؤهم في الحرس الوطني بالهجوم على منزل في ضواحي تونس كان يأوي المجموعة المسؤولة عن مقتل شكري بلعيد. قتل 7 إرهابيين. جمعة تابع الهجوم من غرفة عمليات وزارة الداخلية. وفي الثامن فبراير ، تحركت وحدات مكافحة الإرهاب مجددا في برج الوزير بمحافظة اريانة وتمكنت من اعتقال أحد المسؤولين المفترضين عن اغتيال النائب محمد براهمي. العملية وهي نموذج فريد جرت تحت أنظار مهدي جمعة.

  رغم هذه النجاحات المشجعة، اكتشف رئيس الحكومة الجديد سريعا كبر وتعقيد المهمة التي تنتظره. الوضع أكثر تدهورا مما كان يعتقد. وكل المشاكل متشابكة . من أين يبدأ ؟ خلال تحركاته في منطقة بن غردان الحدودية ، لمس حقيقة ميوعة الدولة التي نخرها الفساد على عهد النظام السابق والتي لم تصوب خلال ثلاث سنوات من الثورة.

 فخلص إلى أن "تطبيق خارطة الطريق هو التزام وتقويم الدولة واجب. لا أؤمن بدوام الديمقراطية ما لم تحترم الدولة الجمهورية في مؤسساتها  وقوانينها وهيبتها. إنها استمرارية الدولة ، بين يناير واكتوبر 2011 ، التي أنقذت الثورة .. لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بتبديد هذا الإرث"

 مهدي جمعة .. شعبي

 خلال مقابلته التلفزيونية في الثالث مارس، أراد جمعة لعب الشفافية لخلق صدمة في الرأي. أعلن أن هناك عجزا بقيمة 12 مليار دينار (حوالي 5 مليار ونصف مليار أورو) في الميزانية ، وأن الدولة لا تملك الوسائل لإبقاء المؤسسات العمومية تحت الحقنة. ولكن الإجراءات العاجلة تاخرت كثيرا.

ينتظر إطلاق اكتتاب وطني كبير بقيمة 500 مليون دينار أواسط مايو الجاري. وسينظم حوار وطني حول الاقتصاد قبل نهاية الشهر نفسه لبحث ملفات حارقة توسيع الضرائب و إصلاح اشتغال اعتمادات الطاقة وتجميد الرواتب والتوظيف في الوظيفة العمومية. الكتلة الوظيفية ارتفعت بـ 40% في ثلاث سنوات!!.. تونس لن تفلت من علاج تقشفي. ولا بد من هدنة اجتماعية . لازلنا بعيدين.

 هامش مناورة رئيس الوزراء ضيق وحكومته تحتاج دعما واسعا." الإصلاحات لا يمكن أن تتم إلا في إطار التوافق" ، يقول جمعة. "وإذا خضنا في الأزمة السياسية فإننا لن نتقدم قط ، حتى لو كان ما نقترحه عادلا ومعقولا". هل تقوم الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بالمهمة؟ لا شيء مؤكدا في الوقت الراهن.

 على جمعة أن "يمشي على البيض" مع التزامه بمكافحة التشكيك الناجم عن التأخير في تطبيق محور مهم  في خارطة الطريق: مراجعة التعيينات التي تمت على أساس المحسوبية.

وقد تم تعيين 18 محافظا جديدا في فبراير وتنتظر حركات أخرى في الإدارة العليا ، والمقاولات العمومية ودواوين الوزارات. " لقد تلقينا تعليمات واضحة" يقول أحد  وزرائه.

"لا يجب تقييمنا من دون الرجال الأكفاء والتعديلات التي نراها ضرورية وأحيانا لا نجد بسهولة المرشحين الجيدين. والحقيقة أن خيارات الكفاءات محدودة نسبيا والشروط المطلوبة كالاستقلالية والحياد وغياب التواطؤ مع النظام السابق شروط كبيرة. بالإضافة إلى أننا نطلب من الناس الالتزام معنا لمدة محدودة لأن مهمتنا محددة في بضعة أشهر لحين تنظيم الانتخابات.

بالرغم من ذلك ، وبعد مئة يوم من استلامه المنصب ، على جمعة أن يواجه اليوم شعور نفاذ الصبر. وإذا كان حقق نتائج على مستوى مكافحة الإرهاب والمستوى الدبلوماسي، فإنه مازال - على مايبدو-  يبحث عن الإيقاع المناسب للمسائل الإقتصادية . "عليه أن يرسل إشارات قوية وأن يتواصل أكثر بشأن أعماله والصعوبات التي تواجهه "، يعلق أحد المحللين." خرجاته الإعلامية متباعدة. كان على حق عندما كشف حقيقة اقتصادنا وماليتنا العمومية . وعليه الآن أن يغير التروس ويتجاوز الجمود البيروقراطي ويعلن إجراءات ملموسة. شعبيته تبقى قوية. إنها مكسبه الأفضل. ويجب أن تتخذ كنقطة انطلاق نحو الجرأة. المماطلة اليوم تعني مواجهة مخاطر أكثر غدا ، وقد لانكون  قادرين على الإصلاح." 

* التقرير نشر بمناسبة مرور 100 يوم على تولي جمعة رئاسة الوزراء