لم تعد الأحداث المتسارعة في ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي في 2011، تعني الليبيين وحدهم، بعد خروج البلاد من وضع الاستقرار إلى وضع التحارب الأهلي وشعور العديد من الأطراف الإقليمية والدولية بضرورة الدخول على خط الأزمة باعتبارها معنية بكل التطورات التي تحصل ورؤيتها بأن أي تراخ قد يؤثر بصفة مباشرة وغير مباشرة عليها، مثلما هو الحال مع تونس والجزائر، البلدان اللذان كانا دائما امتدادا مباشرا لليبيا اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.
على عكس الجزائر، التي كانت منذ لحظة الأزمة وإلى حدود السنتين الأوليين في موقع المراقب الذي يحترز من كل خطوة قد يخطوها، خاصة أنها متهمة برفض المسار الحاصل والتعاطف مع العقيد معمّر القذافي، فإن تونس كانت حالة خاصة في علاقة بليبيا حتى في الفترة التي سبقت الإطاحة بنظام القذافي بسبب تورط أطراف الحكم فيها في الحرب رضوخا لبعض الشروط الخارجية.
تونس الجارة الأقرب جغرافيا واجتماعيا إلى ليبيا، اختارت أن تكون طرفا منذ أن أعلنت حكومتها الانتقالية بعد يناير 2011، مساندة التدخل الخارجي في ليبيا، بل إن أراضيها كانت ممرا لبواخر السلاح الذي به تمت مواجهة النظام الليبي إلى حين الإطاحة به، وقد قوبلت تلك الخطوة بردة فعل عنيفة من قبل الأطراف القومية واليسارية التي رأت فيها انخراطا صريحا في تدمير بلد شقيق وانصياعا لإملاءات إقليمية كان للإسلاميين في تلك الفترة دور أساسي فيها في علاقة بدولتي قطر وتركيا اللتين كانتا رأس الحربة في كل الأحداث التي مرّت بها ليبيا.
الدور التونسي في الأزمة الليبية مر بمرحلتين على الأقل؛ مرحلة أولى خلال الأحداث الأولى "للثورة" من خلال الإعلان الصريح بالانحياز للجماعات المسلحة ضد العقيد معمّر القذافي، خاصة أن إسلاميي تونس أصبحوا في بلادهم جزءا رئيسيا في المشهد السياسي وكانت أغلب المواقف تُعدّل عليهم، بل إن كثيرا من قياداتهم دخلت إلى التراب الليبي في قلب الأزمة وظهرت صور لرموز من حركة النهضة وموالين لها يرفعون السلاح جنبا إلى جنب مع المسلحين الذين تبيّن بعد ذلك أنهم من حملة الأفكار الجهادية.
وعلى الرغم من التطورات التي شهدتها ليبيا والتي كانت تفرض تغيير المواقف مما يحصل، لكن صعود حركة النهضة إلى الحكم في تونس زادا من تعميق الأزمة من خلال الاصطفاف الواضح إلى جانب المسلحين رغم دخولهم هم أنفسهم في مرحلة صراع خطيرة مازالت أثارها ومظاهرها بادية إلى اليوم. فحركة النهضة المنتشية بغنيمة السلطة بدأت في تصفية الحساب مع بعض الرموز الليبية سواء من خلال الزج بها في السجون دون مراعاة أدنى قيمة للأعراف السياسية والاجتماعية، بل وصل الأمر بها إلى تسليم البغدادي المحمودي للمليشيات رغم التنبيهات التي وجهت إليها من المنظمات المحلية والخارجية، وقد نُشرت في تونس أخبار أن النهضة سلمت المحمودي عبر صفقة نالت بفضلها عشرات المليارات.
إلى حدود أربع سنوات أعقبت "فبراير" لا يمكن الحديث عن دور تونسي فاعل في الملف الليبي باعتبار أن الاصطفاف كان إلى جانب الفوضى وسلطة المليشيات دون مراعاة لخطر الموقف المتخذ والذي كانت تبعاته وخيمة على تونس نفسها بعد وقوع عديد العمليات الإرهابية التي تشير كل المعطيات أن منفذيها إما دخلوا من ليبيا أو هربوا إليها نظرا لأنها كانت ساحة مفتوحة للتحارب والتحارب الأهلي وانتشار الإرهاب.
بعد العام 2014، تغيّرت الخارطة السياسية التونسية، بصعود الباجي قايد السبسي وحزبه إلى سدّة الحكم ورفع شعار القطع مع منظومة حكم حركة النهضة في علاقة بالملف الليبي. وبعد سنتين من التأمل والانتظار وفهم الخارطة الليبية ربما، اكتشف قايد السبسي أنه لا مجال للعب دور المشاهد في ليبيا نظرا لتأثيرات الوضع المباشرة على تونس، فاختار منذ العام 2016 أن ينتهج سياسة خارجية مختلفة تقوم على التوافق وربط خيوط الاتصال مع كل الأطراف المعنية بالأزمة الليبية في الداخل بالإضافة إلى التواصل مع الأطراف الخارجية حولها، إلى أن خرجت في يناير 2017، ما يعرف بالمبادرة التونسية لحل الأزمة الليبية، وبداية اللقاءات التي يعقدها الرئيس التونسي مع الفرقاء الليبيين الهادفة إلى تقريب وجهات النظر، وفيها دعوات دائمة إلى الحل السلمي الذي يجب على الليبيين لوحدهم الالتزام به، وقد كانت اللقاءات مكثفة إلى حين الإعلان عن دخول مصر والجزائر فيها لتصبح مبادرة ثلاثية نظرا لتأثير البلدين الآخرين على عدة أطراف في الداخل.
أما الجزائر فإن تعاملها مع الملف الليبي كان مختلفا. فكل المؤشرات كانت تدل أنه على خلاف تونس فإن الموقف الجزائري من الأحداث التي وقعت في 2011، كان محترزا إلى حد كبير، بل إن أغلب التحليلات كانت تستخلص منها تعاطفا مع نظام العقيد معمّر القذافي وحتى بعض التصريحات الدبلوماسية الجزائرية في تلك الفترة كانت نوعا من المسايرة للوضع العام أكثر منها قناعة أو موافقة على تطوّرات الأوضاع. وقد خرجت حتى بعض التصريحات من أعضاء المجلس الانتقالي الليبي تنتقد الموقف الجزائري التي اعتبرته معاديا "للثورة".
لكن في السياسة ليس هنالك شيء اسمه الموقف الثابت خاصة أن عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء على الأقل في شكلها الطبيعي، فبدأت الجزائر تتعامل مع الواقع الليبي وفقا للتطورات الحاصلة على الأرض، شيء واحد كان واضحا أن الجزائر كانت حازمة فيه هو حدودها البرية التي تضاعفت فيها عمليات المراقبة في ظل الانتشار التدريجي للمجموعات الجهادية العنيفة وهو ما كانت تتخوف من اختراقها لحدودها.
شيء آخر يمكن تسجيله في علاقة الجزائر في الملف الليبي منذ 2012 إلى العام 2015، وهو رفضها الصريح لأي تدخل خارجي نظرا لخطورته على الأرض ولأن سلبياته ستكون أكثر من إيجابياته. هنا قد نفهم الموقف الجزائري على أنه تخوف ذاتي من تجاعيات التدخل على الجزائر نفسها ذات الحدود الممتدة والمفتوحة على مساحات بعيدة خاصة مع بلد أصبح السلاح نوعا من الموضة الاجتماعية المنتشرة لدى كل الأطراف بما فيها ذات التوجهات الجهادية المتربصة بأي حدود مع ليبيا.
بعدها أعلنت الجزائر عن رؤيتها لحل الأزمة الليبية، عبر إشراك كل الأطراف مهما كانت درجة اختلافها، في بلورة عملية سياسية تخرج البلاد من المأزق الذي وقعت فيه، مؤكّدة أن ذلك لا يمكن تحقيقه إلا بضبط انفلات المليشيات وضرورة إلغاء كل مظاهر التسليح باعتبارها عائقا دائما أمام أي عملية تقدّم. وما يلاحظ في الرؤية الجزائرية أن حديثها عن كل الأطراف كانت تعني بكل وضوح أيضا أنصار النظام السابق لأنها تؤمن أن دورهم يمكن أن يكون كبيرا بالإضافة إلى أن استثناءهم يعني إقصاء لطرف ثابت في المجتمع الليبي لا يمكن لأي عملية مصالحة أن تتم دون التواصل معهم.
وبداية من العام 2017، دخلت الجزائر في مشروع المبادرة الثلاثية مع تونس ومصر من أجل حل الأزمة الليبية، حيث تكثفت الاجتماعات البينية، واستقبلت الجزائر مثل تونس ومصر عددا من السياسيين الليبيين وكانت تطرح رؤيتها لحل الأزمة والقائمة أساسا على حل سياسي بين مختلف الفرقاء يمكن بعده العمل على تشكيل نواة فعلية لدولة قادرة على ضبط الأمور أمنيا واقتصاديا وهو توافقت فيه المبادرة الثلاثية مع البعثة الأممية التي دخلت كطرف فاعل أصبح تدريجيا هو رأس الحربة في كل العملية وأصبح الدوران التونسي والجزائري يتقلّصان تدريجيا إلا في بعض المشاورات أو احتضان الاجتماعات دون أن تكون طرفا فيها بالنسبة إلى تونس، وما التطورات الأخيرة التي تمرّ بها ليبيا واكتفاء البلدين ببيانات منفردة إلا دليلا على تراجع الدور وانفراط العقد الجامع (المبادرة الثلاثية)*.