يعيد التاريخ نفسه في تونس في شكل مأساة،ففي الثامن عشر من رمضان العام الماضي قضى ثمانية جنود من القوات الخاصة في الجيش الوطني ذبحا على يد عناصر جهادية تنتمي لجماعة "كتيبة عقبة بن نافع" كانت متحصنة بقمم جبال الشعانبي،التابعة لمحافظة القصرين على الحدود الغربية مع الجزائر،و في الثامن عشر من رمضان الحالي هاجمت الجماعة ذاتها معسكرا لجنود تونسيين في منطقة "هنشير التلة" في الشعانبي و خلفت 15 قتيلا و عشرات الجرحى ،في عملية تعد الأكبر و الأكثر دموية منذ انطلاق المواجهات بين الأجهزة الأمنية و العسكرية التونسية و التيار الجهادي في أعقاب سقوط نظام الرئيس الأسبق،زين العابدين بن علي،شتاء العام 2011.
جماعة أنصار الشريعة بتونس (المحظورة)،و على صفحتها الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي أعلنت أن من قام بالعملية هم عناصر "كتيبة عقبة بن نافع" (أحد الخلايا الجهادية التابعة للجماعة) ،كما وعدت بنشر تفاصيلا موثقة بالصور حول العملية.
«شوكة النكاية» و تنامي حجم الاستنزاف
شكلت عملية "هنشير التلة" الأخيرة تطورا نوعيا في حرب الاستنزاف التي تخوضها العناصر الجهادية المتحصنة بجبل الشعانبي منذ ديسمبر 2012 ضد الجيش التونسي،من حيث تكتيكات الهجوم و القدرات التسليحية و حجم العديد و العتاد،و الأخطر من حيث حجم الخسائر البشرية ،فالحصيلة تعد الأكبر في تاريخ الحرب على الإرهاب في تونس،ما يؤكد النجاح النسبي للجماعات المسلحة في استنزاف قدرات القوة النظامية للدولة على المدى البعيد و المتوسط و هو في صلب مرحلة "شوكة النكاية" التي تستهدف إنهاك "الدولة" من أجل المرور إلى "مرحلة إدارة التوحش" ثم تحقيق ما يعرف في النهج الجهادي بالــ"تمكين" ،فمن خلال التفاصيل التي كشفتها الجهات الرسمية التونسية حول العملية نستخلص ما يلي :
- تطور قدرات العناصر الجهادية على المستوى اللوجيستي ،ففي كل العمليات السابقة اقتصر الأمر على استعمال البنادق الآلية في المواجهات المباشرة و الألغام تقليدية الصنع،لكن في هذه العملية دخل الصراع سلاح القذائف (أربجي)و القذائف المضادة للدروع ،مما خلف خسائر بشرية كبيرة في صفوف الجيش التونسي.
- وزير الدفاع التونسي كشف عن أن المجموعة التي قامت بتنفيذ العملية يتراوح عددها بين 40 و60 و هذا يكشف تطورا كبيرا في قدرة الجماعات على الحركة داخل المنطقة بالرغم من أنها مغلقة منذ أكثر من سنة ،كما كشف الوزير أن العناصر قد تسللت من الخارج ،ما يعني أن الجماعة المتحصنة بالجبل تتمركز في المنطقة الجبلية داخل الجزائر و تتلقى دعما لوجستيكا من عناصر القاعدة في بلاد المغرب،خاصة و أن نصف أعضاء كتيبة عقبة بن نافع و أميرها يحملون الجنسية الجزائرية،ذات التجربة الطويلة في حرب العصابات ضد القوات النظامية.
- دقة العملية و حجم الخسائر تكشفان قدرة العناصر الجهادية على الرصد و التقصي و جمع المعلومات عن القوات النظامية و تحركاتها و مواقعها في منطقة مغلقة و تشهد قصفا مدفعيا و جويا بشكل شبه يومي ،و بذلك استطاعة الحفاظ على زمام الهجوم و عنصر المباغتة الذي يعتبر مفتاح لحسم أي صراع عسكري.
و لكن ،و بالرغم من كل هذه المكاسب التي حققتها الجماعات الجهادية في جبهة الشعانبي إلا أنها تكبدت في المدة الماضية العديد من الخسائر على جبهات أخرى،فقد كشف وزير الداخلية التونسي،لطفي بن جدو في 17 يوليو الحالي،عن أن قوات الأمن الداخلي قد أحبطت منذ بداية شهر رمضان الحالي ست عمليات إرهابية كانت جميعها بالمدن،منها عمليات بالسيارات المفخخة و اغتيال شخصيات سياسية،كما تمكن الأمن التونسي من اعتقال العشرات من العناصر الجهادية و القضاء على العشرات منهم بينهم قيادات كبيرة ،ككمال القضقاضي قاتل المعارض اليساري شكري بلعيد،و في هذا السياق قال ريس الحكومة التونسية مهدي جمعة بأن "الأجهزة القضائية والأمنية تمكنت من إيقاف 1000 إرهابي منذ بداية العام الجاري يمثل كل واحد منهم مشروع تفجير".
فالعملية الأخيرة كانت معركة ضمن حرب كاملة،فتاريخيا،في كل تجارب حروب "الدولة" ضد "الإرهاب" تطول مرحلة "الاستنزاف" لتباين شكل الصراع بين "قوة نظامية" و "حرب عصابات" و معها تتنوع أشكال المواجهة ،ففي معدل المواجهات تكسب "قوى التمرد" بين معركة إلى معركتين من 20 لذلك فإن عملية الشعانبي الأخيرة هي أمر متوقع خاصة في ظل ما يعيشه الإقليم (المغرب العربي) من تنامي نشاط الجماعات الجهادية و انتشار السلاح و تردي الوضع الأمني في الجارة ليبيا.
الأهداف السياسية و مسار الانتقال الديمقراطي
إلى جانب الأهداف العسكرية و المادية ،يتحرك التيار الجهادي في تونس اليوم على أرضية سياسية تهدف إلى الإبقاء على الوضع الانتقالي الهش للدولة التونسية،فهشاشة الدولة و غياب المؤسسات القارة في هرم القيادة السياسية ،تعتبر مناخا خصبا لنشاطه العسكري و الدعوي و الاجتماعي ،لذلك فان نشاطه اليوم يتركز على إفشال مرور البلاد نحو المؤسسات الدائمة على المستوى التنفيذي و التشريعي من خلال إفشال المسار الانتخابي ،فالعملية الأخيرة جاءت بالتزامن مع انطلاق عمليات التسجيل للانتخابات التشريعية و الرئاسية المزمع إقامتها في السادس والعشرين من أكتوبر بالنسبة للبرلمان، والثالث والعشرين نوفمبر 2014 للرئاسة،و إلى جانب الأرضية السياسية،فالأرضية الفكرية و العقدية للجهاديين ترفض الانتخابات و الديمقراطية و تعتبرها "صنم العصر الذي يعبد من دون الله"،و هذا مطروح بتفصيل في أدبياتهم و كتبهم.
و في هذا السياق قال رئيس الحكومة التونسية،مهدي جمعة،في ندوة صحافية " إن العملية الأخيرة تهدف إلى إفشال الانتقال الديمقراطي في البلاد، مشدداً على أن مكافحة الإرهاب وإنجاح الاستحقاق الانتخابي المقبل على رأس أولويات الحكومة"، من جانبه شدد رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر خلال لقاء صحافي على "أن العملية الإرهابية تعد استهدافاً لنموذج الانتقال الديمقراطي في تونس وللعملية الانتخابية" ،أما وزير الدفاع التونسي،غازي الجريبي،فقد كشف عن وجود "مخطط جهنمي تنفذه قوى داخلية و خارجية لها مشروع يشمل تونس و ليبيا و الجزائر ومصر و المغرب ،و يستهدف النمط المجتمعي التونسي وعرقلة المسار الانتخابي للحيلولة دون إرساء منوال ديمقراطي في تونس". (1)
«حرائق الإقليم» صراع الدولة و الفوضى
تعد تونس نموذجا مصغرا وبسيطا لبقية دول الإقليم ،فالشمال الأفريقي يعيش و منذ سقوط الأنظمة السابقة في أعقاب الثورات العربية شتاء العام 2011 راعا بين "الدولة" و "البندقية الجهادية"،هذه البندقية التي استغلت ضعف الدولة المركزية في تونس و مصر و ليبيا و قبلهم الجزائر لتزيد من حجم تمددها الميداني و الاجتماعي و تعزز قدراتها اللوجستية و التسليحية .
ففي أعقاب الثورات ،التي نجحت في إسقاط الأنظمة،سعت شعوب المنطقة و حكامها الجدد إلى إرساء أنظمة ديمقراطية تقطع مع السابقة و السير في انتقال ديمقراطي سلس و عدالة انتقالية ،غير أن "الإسلام السياسي المسلح" مدعوما بأنظمة إقليمية أفشل هذا الانتقال بأن عمد إلى قوة السلاح ليدخل المنطقة في أتون الفوضى و الفتنة ،ليفشل مشروعه في مصر بعد تدخل الجيش المصري لحماية الدولة ثم بنجاح المسار الانتخابي و عودة "سلطة الدولة المركزية" و النجاح النسبي في تفكيك القوى الإرهابية المعادية،بالرغم من أن الدولة مازلت تخوض "حرب استنزاف" طويلة و قاسية ضد المجاميع الجهادية المسلحة في سيناء و في المناطق الصحراوية الغربية و على الحدود الليبية الملتهبة ،و لعل العملية الإرهابية الأخيرة التي جدت "في 19 يوليو الحالي في منطقة الفرافرة بصحراء مصر الغربية،و أودت بحياة 22 جندياً مصرياً" (2) دليل قاطع على وجود "قرار مركزي" من القوى الجهادية الناشطة في شمال إفريقيا لتصعيد النشاط ضد "الجيوش النظامية" فالعملية جاءت بعد يومين من عملية "الشعانبي" في تونس و بعد أسبوعين من عملية مماثلة أودت بحياة عشرات من جنود الجزائريين شرق البلاد.
أما في ليبيا فقد كان الوضع و مازال كارثيا فقد نجحت القوى المتشددة و الجهادية في التمدد داخل المجتمع و في أجهزة الدولة طيلة ثلاث سنوات بالرغم من القرار الأخير للجيش الليبي بوضع حد لها مع انطلاقة عملية "الكرامة "في الأشهر الماضية و يبدو أن الصراع مازال طويلا بين قوى "الدولة " و قوى "الفوضى"،لتبقى تونس النموذج الوسط بين مصر و ليبيا ،فالبلاد لم تنجح حتى الآن في السير نحو مؤسسات سياسية دائمة أو في إرجاع سلطة الدولة المركزية كما حدث في مصر و لكنها أيضا لم تفقد زمام المبادرة و التحرك لضبط الأمن كما حدث في ليبيا و لم تترك المجال للجماعات الجهادية للعمل داخل المجتمع بل عزلتها في جبهات عسكرية بالرغم من صعوبة الصراع و الخسائر البشرية و المادية التي تكبدتها الدولة.
فالنشاط الجهادي في الدول التي مرت بتجربة "الربيع العربي" يركز هجماته على "الجيوش النظامية " في شكل حرب عصابات ،لا تريد السيطرة على الجغرافيا بقدر ما تهدف إلى استنزاف و إنهاك قوات الأمن و الجيش و ما يترب على ذلك من نتائج اقتصادية كارثية في ضرب الاستثمارات الخارجية و قطاع السياحة و الأهم من كل ذلك بث الإحباط في صفوف المجتمع و هي من أهم أهداف "مرحلة شوكة النكاية" في إستراتيجية "إدارة التوحش" التي تسير عليها هذه الجماعات.
و يرجح أن يتنامى النشاط الجهادي في المنطقة عموما في الأيام القادمة ،خاصة في ظل الحصار الذي تعانيه الجماعات الجهادية في ليبيا في المدة الأخيرة و المعارك الضارية التي تخوضها ضد قوات الجيش الليبي،مع الأخذ في الاعتبار التغيرات الداخلية في المشهد الجهادي و الانقسام الحاصل بين "الدولة الإسلامية" و تنظيم القاعدة" و الذي وصلت تأثيراته إلى المغرب العربي بعد أن رفضت قيادة القاعدة في بلاد المغرب مبايعة "الخليفة" الجديد للدولة الإسلامية ،أبو بكر البغدادي،و التمسك ببيعتها القديمة لزعيم القاعدة،أيمن الظواهري،في ظل وجود تملل داخل قاعدة المغرب الإسلامي و رغبة قيادات عسكرية وشرعية داخل التنظيم بالالتحاق بالدولة الإسلامية ،خاصة و أن مجاميع جهادية مغاربية عديدة عبرت عن إعجابها بــ"داعش" و أميرها و أبدت رغبة واضحة في المبايعة،ما ينذر باقتتال داخلي يمكن أن يندلع في أي وقت على شاكلة الصراع بين "النصرة" و "داعش" في سورية ،خاصة و أن بوادره قد ظهرت في الأيام السابقة في درنة شرق ليبيا.
كل ما سبق أصبح يستدعي ضرورة التنسيق الإقليمي و الأمني بين دول المنطقة ،بل و المرور إلى تشكيل كيان إقليمي يجمع مصر و ليبيا و تونس و الجزائر لتبادل المعلومات و تسير قوات مشتركة لحماية الحدود البرية الممتدة و حصر انتشار السلاح الليبي المنتشر في المنطقة ،و ذلك منعا لوجود "بؤر جهادية قائمة السيادة" كما حدث في سورية و العراق ،و منعا لأي نوايا للتدخل الخارجي العسكري و الأمني و الذي أثبت تاريخيا فشله في حسم الصراع و خلف مآسي مازالت بعض الدول تعيشها حتي اليوم .