يوم 22 سبتمبر الماضي أعلن الرئيس التونسي عن أمر رئاسي متعلّق بالتدابير الاستثنائية التي بدأها يوم 25 يوليو وجمد عبرها البرلمان وأقال رئيس الحكومة آنذاك هشام المشيشي. لكن الجديد في الأمر الرئاسي أنه أنهى دور الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، وأوقف العمل بأغلبية فصول الدستور وتشكيل لجنة لإعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالإصلاحات السياسية، في خطوة رآها كثيرون توجها نحو الأقصى في خياراته وهو ما خلف جدلا كبيرا في الشارع التونسي انتهى مؤخرا بمظاهرات مؤيدة ومعارضة لتلك القرارات وحتى بمواقف خارجية متباينة حول ما قام به الرئيس.

القرارات الرئاسية التونسية فتحت النقاشات عن مستقبل العملية السياسية في البلاد، بين يعتبر المسار ضروريا لتصحيح انفلاتات كثيرة حصلت خلال العشرية الأخيرة من اضطرابات أمنية أدت إلى اغتيالات سياسية وانتشار الإرهاب وتراجع اقتصادي كبير ضاعف المديونية العامة للدولة إضافة إلى عجز سياسي في ظل غياب الثقة بين مختلف الأطراف السياسية وخاصة بين حركة النهضة وبقية خصومها باعتبارها الحزب الذي دخل الحكم منذ تحولات العام 2011 ولم تغادره إلا في الإجراء الرئاسي الأخير الذي أزاحها من المشهد استنادا إلى فصل دستوري اعتبر من خلاله الرئيس أن الدولة أمام خطر جاثم.

أما الطرف الآخر فيعتبر ما قام به سعيّد انقلابا على الدستور وكل ما حصل ويحصل بعده غير دستوري ولا يعتد به وما يحصل هو استفراد بالسلطة يهدد البلاد بالعودة إلى الدكتاتورية، ووصلت ردود الفعل درجة الخروج إلى الشوارع للاحتجاج والتعبير على الرفض وعلى رأس المحتجين حركة النهضة الإسلامية التي تتخوف اليوم من بعض الملفات الأمنية التي قد تنهي ببعض قياداتها في السجون باعتبارهم تحملوا مسؤوليات في الدولة تجعلهم أمام المحاسبة القانونية.

وبالحديث عن حركة النهضة يبدو أنها استطاعت أن تستميل بعض الأطراف السياسية التونسية في الموقف من قيس سعيّد، حيث باءت محاولاتها الأولى منفردة بالفشل وعجزت أن تحشد أنصارها ومازال مشهد رئيسها راشد الغنوشي منفردا محبطا أمام البرلمان في فجر الـ26 من يوليو ماثلا في أذهان التونسيين وأكدت للنهضاويين قبل غيرهم أن حزبهم فقد شعبيته ولم يعد قادرا على استمالة الشارع كما هو الحال في السنوات التي أعقبت الثورة.

وفي متابعة للمواقف التونسية من الإجراءات الاستثنائية لقيس سعيّد يبدو حزبيا أن حزب حركة الشعب ذا التوجّه الناصري هو الوحيد الممثل برلمانيا وهو المتمايز عن البقية في المساندة باعتباره ومنذ اليوم الأول أصدر بيانا اعتبر أن الإجراء مهم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وإلى اليوم مازال قياديوه يعبرون عن وقوفهم إلى جانب الرئيس رغم أن بعض المصادر تشير إلى أنه إسناد مجاني والرئيس نفسه ذاهب بقوة في تجاوز المنظومة الحزبية التي يعتبرها معرقلا للتقدّم السياسي للبلاد ويطرح بدائل أخرى تعتمد على التمثيلية الشعبية المباشرة على أنها التعبيرة المواطنية الحقيقية بعيدا عن التقييد الحزبي التقليدي، ومن يريد أن ينتقد الرئيس اليوم على هذا الموقف يبدو أنها لم يطلع على فكر الرجل الذي عبر عنها منذ بداية حملته الانتخابية في 2019. كما توجد بعض الأحزاب الصغيرة أيضا وهي ذات توجه يساري أعلنت ترحيبها بخطوة قيس سعيّد داعية إلى المضي في الإجراءات قدما والإعلان عن الحل الرسمي للبرلمان.

هذه الأحزاب لا مؤاخذات لها على الرئيس إلا في مستوى التأخر في الإعلان عن حكومة جديدة تنهي الفراغ التنفيذي وهذا تم تحقيقة عبر الإعلان عن تكليف الجامعية نجلاء بودن بالمهمة وهي شخصية يعتقد أن الرئيس أخذ وقته في اختيارها بعيدا عن الولاءات السياسية التي كانت طاغية في السابق.

أما الشق المعارض للرئيس اليوم فهو يشكل تنسيقيات هي من تنظم المسيرات الاحتجاجية وتنسق فيما بينها في إصدار المواقف من إجراءات 25 جويلية، وفي غالبها تعتبر ما حصل ارتدادا على ما طالب به التونسيون في 2011، مطالبة بعودة البرلمان وسرعة الإعلان عن حكومة لأن تصرف الرئيس بشكل منفرد حسب رأيها فيه نزعة دكتاتورية.

الجديد في الأطراف المعارضة لقيس سعيّد أنها ضمت من كانوا إلى وقت قريب متناقضين في المواقف، حيث توجد حركة النهضة وقبل تونس اللذين تعتبر المتضرر الأكبر مما حصل، لكن توجد أيضا أحزاب تعتبر نفسها يسارية أو اجتماعية مثل حزب التيار الديمقراطي الذي معارضا بشد لحركة النهضة في البرلمان وحزب العمال الذي يرأسها حمة الهمامي، بالإضافة إلى وجود شخصيات مستقلة لها موقف معادي للإسلام السياسي لكنها اليوم موجودة معه في نفس الطريق في معارضة الرئيس.

معارضة قيس سعيّد لم تقتصر على أطراف الإسلام السياسي في الداخل التونسي وبعض المنسجمين مع خياراته، بل إن الأزمة التونسية أخذت منعرجا آخر بتدخل القوى الدولية الكبرى التي اختارت أن تصدّر مواقف غير مدركة للواقع التونسي من بينها الولايات المتحدة التي يبدو أن علاقة الحزب الديمقراطي بإسلاميي المنطقة هي المحددة في ما تعلنه من مواقف، آخرها ما صدر عن السيناتور الأمريكي كريس مورفي الذي قال في تصريحات لوسائل إعلام أمريكية إن علاقة الولايات المتحدة الوثيقة مع تونس مرتبط بالتزام تونس بالديمقراطية. مضيفا أن ما يقوم الرئيس سعيّد يتعارض مع التزامه تجاه الشعب التونسي بحماية ودعم حقوقه الديمقراطية وليست الطريقة لحل المشاكل الحقيقية التي تواجهها تونس.

ما يمكن استخلاصه إذن أن تونس اليوم أمام أزمة سياسية حقيقية، وانقسمت فيها المواقف بين من هو مؤيد لإجراءات الرئيس قيس سعيّد وما هو رافض لها، لكن التخوف السائد أن الرئيس اليوم، ورغم اختيارها لشخصية تقود الحكومة في المرحلة المقبلة إلا يسير في مخططه دون أي تنسيق أو حوار داخلي وهذا ما برر به معارضوه احتجاجاتهم التي بدأت باستعراض قوتهم جماهيريا مما قد يطور الأمور نحو توتر أكثر لا يمكن للبلاد أن تتحمل أثاره.