بانغي، جمهورية افريقيا الوسطى

 مع مغادرة قافلة المسلمين المرحلين في الضواحي المحاصرة، اصطف القرويون على جنبات الطريق لتوديع مواطنيهم الفارين. وكان بعضهم مكدسا في شاحنة عارية يواجهون نظرات أفواج من القرويين. فيما كان الآخرون يتلقفون نظرات وإيماءات قاسية من السكان المودعين.

كانت نظرات وداع متبادلة بين ما يقارب 1.300 مسلم كانوا يحتمون في الضاحية الشمالية من عاصمة جمهورية افريقيا الوسطى بانغي والقرويين المسيحيين الذين انقلبوا ضدهم وأرغموهم على الرحيل صوب شمال البلاد.

كانت الحشود متجمهرة على جنبات الأزقة للتأكد من أن المسلمين رحلوا من دون رجعة.

"الله أكبر!" يصيح رافائيل نادو ساخرا ، عندما مرت القافلة بمحاذاة مسجد المقاطعة، الذي بدت أبوابه ونوافذه وقد هشمها الناهبون، بعضهم يحمل السكاكين ويلبس ثيابا ملونة ساحرة وجالبة للحظ في نظرهم. وفي الجانب الآخر كان هناك رجلان منشغلان بحمل منبر الإمام، عندما تدخلت القوات الكونغولية لوقف تدمير المسجد بالكامل.

بعد أشهر على الفظائع التي اتُهمت بها الحكومة السابقة التي هيمن عليها المسلمون، تقول السيدة نادو أنها أجبرت على الإقامة في مخيم للنازحين، وقالت انها تنظر إلى نهب المسجد كلحظة قصاص وتحرر. "إننا ننال حريتنا"، تقول هذه السيدة.

إن إخلاء  مقاطعة (PK12) ضاحية بانغي يوم الأحد الماضي، بمساعدة فرق الإغاثة، يرمز إلى ما يحدث في جمهورية افريقيا الوسطى، حيث بدأ استهداف المسلمين من قبل الميليشيات المسيحية منذ يناير الماضي. ويبدو أن بانغي أقرب ما تكون "مطهرة" بشكل تام من المسلمين، فالآلاف يغادرون منازلهم صوب أماكن أكثر أمنا في البلاد أو في اتجاه الدول المجاورة، تشاد أو الكاميرون. ولكن هذا النزوح الجماعي قد يجلب مخاوف من زعزعة الاستقرار في الجمهورية وربما يلعب لصالح الجماعات الجهادية التي تبحث عن مجندين جدد.

"لدينا جيل كامل من الشباب المسلمين الذين فقدوا كل شيء، وهم في حالة غضب شديد"، يقول بيتر بوكارت، مدير قسم الطوارئ لهيومن رايتس ووتش. "وهذه لن تكون حتما الجولة الأخيرة من المعركة".

ويُنظر الى الإطاحة بحكومة السيليكا في يناير كانون الثاني على أنها بداية موجات العنف التي أضحت تستهدف الجماعات المسلمة في جميع أنحاء هذا البلد المكون من 4.6 مليون.

وقد وصل السيليكا، وهم جماعة من المتمردين المسلمين أغلبهم من المناطق الشمالية للبلاد، إلى السلطة عقب اجتياح العاصمة وإبعاد الرئيس فرانسوا بوزيزي. لكن رئيسهم، ميشال جوتوديا، لم يدم في الحكم سوى 10 أشهر لم يقدم فيها شيئا يذكر. وبالمقابل، قام مقاتلو السيليكا بقتل مناصرين لبوزيزي ومحوا قرى بكاملها في مختلف أنحاء البلاد.

بحلول ديسمبر كانون الاول، دعت القوات المناهضة، أنتي-بالاكا، ومعظم أفرادها مسيحيون، إلى حشد الدعم للعصيان. وفي الوقت الذي ضغطت فيه دول الجوار لاستقالة السيد جوتوديا في يناير كانون الثاني، كانت قوات أنتي-بالكا المناهضة قد قررت طرد جميع المسلمين، وليس فقط السيليكا، من البلاد.

دمرت الحشود المساجد في بانغي وأقدمت على قتل المسلمين في القرى، وقادت الآلاف للاحتماء في ضواحي العاصمة، (في مقاطعات PK12 وPK5). حيث ظلت هذه الأخيرة الملاذ الوحيد للمسلمين الفارين.

وبالرغم من وجود قوات حفظ السلام الأجنبية، التي أرسلتها فرنسا والاتحاد الافريقي، لم تكن هذه المقاطعات تنعم بالأمن. وظلت الجماعات المحاصَرة بؤرة توتر سواء من جانب قوات أنتي-بالاكا التي تتوغل إليها وتنفذ عملياتها هناك أو من جانب بعص العناصر المسلمة المنتقمة من هجمات أنتي-بالاكا المسيحية.

في الأيام الأخيرة من تواجدهم في مقاطعة (PK12)، لم يكن معظم المسلمين يرغبون سوى بالرحيل بعيدا عن هذا الوضع.

"لقد قتلوا آباءنا وأطفالنا"، تقول سالي حسن، من سكان المقاطعة وهي تنتظر موعد إجلائها. "لا نستطيع العيش هنا".

ولكن مخيمات اللاجئين التي يتجه إليها الكثير قد تولد مشاكل أخرى : استقطاب الجماعات الجهادية للشباب العاطل عن العمل. فالكاميرون تستقبل أكثر من 175.000 لاجئ فار من القتال. هذا وشرعت بالفعل جماعة بوكو حرام النيجيرية المتطرفة في التوغل شمال الكاميرون.

صرح السيد بوكارت بأن "الجماعات الجهادية سوف تنظر إلى جمهورية افريقيا الوسطى بكثير من الاهتمام". ويرى أن الدوافع وراء الصراع في جمهورية افريقيا الوسطى سياسية أكثر منها دينية، لكن تاريخ البلاد الطويل في الحكامة الهشة تشير إلى أنها المكان الأنسب لتوغل الإسلاميين الجهاديين.

في أزقة مقاطعة (PK12)، اتخذت عمليات النهب صبغة دينية. سجدت النساء بازدراء في الشارع وهن يصرخن "الله أكبر"، بينما كتب بعض الشباب عبارة "مركز الشباب" على باب المسجد.

فيما فضل آخرون تحطيم المنازل ونثر قطع الخشب والألومنيوم على قارعة الطريق.

"إنهم وحوش، دمروا منازلنا. لا يمكننا أن نعيش إلى جانبهم"، يقول تشولونغا غوتييه، أحد الناهبين، في إشارة للسكان المسلمين، مضيفا، "لهذا السبب نقوم الآن بتدمير منازلهم".

يتجول ماكسيم غبميدينغو وسط الناهبين بسكين مربوطة إلى ظهره و ابتسامة تعلو محياه. إنه قائد جماعة أنتي-بالاكا المحلية، الذي خسر منزله وكاد يفقد حياته في مواجهة مقاتلي السيليكا. إنه يبدو سعيدا لمغادرة المسلمين، فبالنسبة له، لا مكان لهم في البلاد بعد الآن.

نحن بحاجة لوقف عمليات السلب والنهب"، يعلن السيد غبميدينغو.

لكن نيته لم تكن حماية ممتلكات المسلمين بقدر ما كان يسعى للتأكد من أن المسيحيين الذين سوف يحلون بالمقاطعة سيجدون مكانا آمنا ليستقروا فيه.