وسط قصب نهر النيل ، جثمت أمهات و أطفالهن تحت الماء وهن يحبسن أنفاسهن أطول فترة ممكنة ، بينما كان عناصر ميليشيات جنوب السودان يقتفون آثارهم على ضفة النهر ويتساءلون عما إذ كان يجب مطاردة وقتل عشرات من الناس الذين اختبأوا في المنطقة.

"في تلك اللحظة" ،  يقول الطبيب مابيور نيون: "رصدت عينا أحد المسلحين رجلا مسنا كان من بين المدنيين المذعورين الذين اختبأوا في النهر وطلب منه الخروج ".

وبينما كان الرجل يمتثل للأمر ويخرج متعثرا من نهر النيل ، أطلقت الميليشيا النار عليه .

حينها سمع بيور مقاتلا آخر يقول: " لماذا فعلت ذلك؟ "

فرد المقاتل : "لأنني أستطيع ".

وبعد ساعتين ، وبعد أن غادر المقاتلون ، بات الوضع  أخيرا آمنا   لبيور وباقي الناجين للخروج من الماء. ولكن بعد أن كان ثمانية أطفال قد لقوا مصرعهم غرقا وهم في أذرع أمهاتهن .

عندما هاجم مقاتلو قبيلة النوير في ديسمبر "بور" ، وهي مدينة مابيور" كان الأصدقاء ببساطة  يقتلون الأصدقاء ، فقط لأن الهجوم من قبيلة أخرى"، يقول ما بيور الذي ينتمي لقبيلة الدينكا .

في البداية ، يقول إنه بقي في منصبه في مستشفى بور ، يسعف جنديا كان يعاني من جروح بالغة ، وسيدة  تواجه مضاعفات الولادة. لكنه اضطر إلى الفرار إلى الأدغال عندما جاء مقاتلو النوير وراحوا يطلقون النار من الرشاشات بشكل جنوني بينما أطلق هوقدماه للريح تاركا الجندي والمرأة وراءه . بعض المرضى ركضوا بدورهم.. 
" كنت خائفا من الموت . الضوضاء التي كانوا يحدثونها برشاشاتهم .. بوم بوم  . "

في الأيام الخمسة التالية ، كان يفر باستمرار من ميليشيات النوير التي تطارد الدينكا في الأدغال . رأى أربعة أشخاص يُقنصون بجانبه أثناء فراره . وقال إنه شاهد جثث 10 مدنيين على ضفة النهر .

عندما استعادت  القوات الحكومية المدينة ، عاد مرة أخرى إلى مدينة "بور"، حيث وجد مشرحة المستشفى مكتظة بالقتلى. بينهم ، كان المريضان اللذان خاطر بحياته من أجلهما ، وإلى جانبهما ابن المرأة الذي قضى بسبب نقص الرضاعة.

"انتابني شعور سيء " يقول مابيور " لو لم يكن هذا القتال ، لكانت هذه المرأة على قيد الحياة ".

في الأيام التي أعقبت اندلاع عمليات القتل العرقية في جنوب السودان في ديسمبر ، توفي ما يقدر بـ 10،000 شخص في القتال.

وقد استعرت هذه الفظائع بسبب الصراع السياسي بين رئيس جنوب السودان سلفا كير ومنافسه النائب السابق ، ريك مشار المنتميان لحركة تحرير السودان الحاكمة . ويقول دبلوماسيون وشهود إن الطرفين معا مسؤولان عن المجازر.

ويتعين على الدولة الوليدة الآن إيجاد سبيل لتجاوز العنف. ويخشى البعض أن تؤدي مقاضاة القادة السياسيين وخصوصا المسؤولين إلى  زعزعة الاستقرار المتذبذب أصلا والهش في البلاد ، التي حصلت على استقلالها قبل أقل من ثلاث سنوات ، و قد يجعل من المستحيل التوصل الى اتفاق سلام . ولكن جماعات حقوق الانسان تقول إن جنوب السودان لا يستطيع دفن الحقيقة و منح العفو للقتلة دون المخاطرة في المستقبل بوقوع  عنف عرقي.

وقد أثبتت اتفاقات السلام السابقة في جنوب السودان أنها سطحية وهشة ، بما في ذلك واحد وقع في مايو من عام 2012 في بور عاصمة ولاية جونقلي . في بعض تلك الصفقات، تم استيعاب الميليشيات العرقية في الجيش الشعبي لتحرير السودان ، الجناح العسكري للحزب الحاكم ، والذي قام في الواقع بالتغطية على شقوق العرقية.

علاوة على ذلك، لا يزال القتال مستمرا على الرغم من اتفاق وقف إطلاق النار في يناير ، فيما فر ما يقدر بـ 850،000 شخص من ديارهم .

أولئك الذين كانوا يختبئون في النهر مع مابيور هم من الدينكا . في العاصمة جوبا ، سقط  النوير في هجوم في ديسمبر نفذه أفراد من قوات الأمن في جنوب السودان.
 
  وفي جوبا ، نشأت مدينة صغيرة داخل  قاعدة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، تتوفر على أزقة ضيقة ومحلات تجارية مؤقتة ، وأعمال تجارية ومبيعات هواتف ونساء تطهون على نار الفحم . يبدو في الواقع  ، كباقي مخيمات النازحين، باستثناء وجود حقائب معبأة بعناية خارج خيام مؤقتة ، و بذلات أنيقة معلقة في الداخل ، بعضها لأعضاء في البرلمان لجأوا بدورهم إلى المخيم.

يقول وليام مبانى ، وهو شرطي من النوير ، إنه ركض إلى المخيم مخافة أن يتعرض للقتل من قبل زملائه الضباط في ديسمبر. و يظهر صورة على هاتفه المحمول لمقبرة جماعية لجثث أشخاص قال إنهم  ينتمون إلى قبيلته .

في إحدى الحوادث ، أطلقت القوات الحكومية عمدا طلقات على غرفة غاصة برجال من النوير كانوا محتجزين داخل مبنى للشرطة ، وهو ما أسفر عن مقتل أكثر من 200 منهم ، كما يقول الناجي  مايانغ جيان .

ويضيف ناجون أنه تم تحديد الضحايا من خلال ندوب على وجوههم أو من خلال استجوابهم بلغة الدينكا وأنه اعتُقل أو قُتل من لم يتمكنوا من الإجابة.

بول نغوت ، وهو طالب جامعي في جوبا ، كان مختبئا في منزل مع سبعة رجال من النوير عندما أمرهم جنود حكوميون بالخروج إلى الشارع. وقال إنه تعرض للضرب بعقب بندقية في حين قتل اثنان من الأشخاص الذين كانوا معه ، أحدهما ابن عمه .

"رأيت الجنود يطلقون النار على الناس ، و عندما رأيت ذلك هربت" ويضيف  "رأسي كان مغطى بالدم. أعتقد أنهم كانوا على وشك قتلي. "
الناس يريدون الحقيقة بشأن عمليات القتل ، ولكن ليس الجميع يريد المصالحة.

" لا، لا، لا "، قال فيتو ماريو ، 35 عاما، وهو فني نفط من قبيلة الشلوك هرب الشهر الماضي من مخيم ملكال للنازحين  بعد أن قتل مسلحو النوير أسرة  بجانب منزله.

" لقد دمروا حياتنا ونحن لا نريد هؤلاء الناس للعيش معنا في ولاية أعالي النيل .... لنعيش معا ! "   يهز ماريو رأسه بشكل يثير الشكوك .
 
ويشاطره توبي لانزة الرأي :" إنه أمر لا يصدق.. هذه السرعة التي خرجت بها الأمور عن نطاق السيطرة " .
 " كانوا يقولون إنهم لا يريدوننا في هذه المنطقة، وأن هذه هي أرضهم "، يقول روبرت أوكنغ، الذي يعيش في نفس المخيم ، واصفا هجوم ميليشيات النوير في يناير بالعنف المروع الذي طال الكثير من العائلات إلى درجة أنه من الصعب معرفة كيف يمكن للبلد أن تشفي جراحها".

في زيارة له شهر يناير إلى كنيسة في بور حيث قتل ما لا يقل عن  14 من الدنكا  ، دعا رئيس أساقفة كانتربري جوستين ويلبي للمصالحة و حذر من الإفلات من العقاب. وكان يرافقه رئيس أساقفة الكنيسة السودانية دانيال دينق بول الذي كان قد عين من قبل كير في مايو لرئاسة لجنة وطنية للمصالحة . دنغ أشرف في وقت سابق على عملية السلام في ولاية جونقلي ، حيث تفاقمت المجازر الانتقامية العنيفة على أسس قبلية ، وعادة بسبب سرقة مواشي  مستمرة منذ سنوات.

وقال دبلوماسي في جوبا ، فضل عدم الكشف عن هويته ، أنه بعد المعارك الأخيرة ، قد لا يكون الدنغ – الذي ينتمي لقبيلة الدينكا-  مقبولا من جميع مواطني جنوب السودان لقيادة عملية المصالحة.

ويقول النقاد إنه بالرغم من أن الأمم المتحدة والجهات المانحة و الوكالات الإنسانية الدولية تقدم نحو مليار دولار سنويا مساعدات لجنوب السودان،  فإنهم يتغاضون على الانقسامات العرقية وسوء الإدارة و الاقتتال المرير داخل  الحركة الشعبية لتحرير السودان.
 " في العديد من الجبهات، كانت الأمور تسير على نحو إيجابي في نهاية العام الماضي "، يقول منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة توبي لانزر . " السرعة التي خرجت بها الأمور عن نطاق السيطرة .. أمر لا يصدق".

وأضاف " لقد سألت نفسي ، هل كان ينبغي أن نركز أكثر على المصالحة ؟ "

يقول الطبيب مابيور إن بلاده بحاجة للأطباء. ويتابع ، قبل المعارك الأخيرة كان الناس غالبا ما ينادونه في الشارع  ، ويقولون له : "شكرا على ما تفعله" . ولهذا قرر العودة إلى مستشفى بور رغم كل شيء لأن الناس في حاجة إليه .

عندما يتذكر المرضى الذين لقوا حتفهم و الجثث المكدسة في المشرحة  يلوم السياسيين ، جميعهم .

ويخشى ما بيور أن اتفاق سلام آخر سطحيا  قد يترك البلاد عرضة للعنف . ويبدو قلقا من انفجار العنف مرة أخرى خاصة  في جونقلي ، حيث تقرح التوتر العرقي مطولا وحيث على القبائل المختلفة أن تتعلم العيش جنبا إلى جنب .

"على الحكومة أن تعمل بجد على تحقيق المصالحة. عليهم الذهاب إلى القرى والتحدث إلى الناس. إذا كنت تريد أن يحقق الناس المصالحة ، عليك الذهاب إليهم حيث هم ، هناك في مخيمات الماشية النائية و قل لهم هذه هي الطريقة التي يجب أن نعيش بها".

* روبين ديكسون