يشهد قطاع الصيدلة في موريتانيا فوضوية منقطعة النظير ، تتعدد أسبابها لتفرز نتيجة واحدة هي توزيع الموت على ثلاثة ملايين ونصف من السكان ، وإدارة حرب سلاحها الأقراص ، وأبطالها الصيادلة والموردون ، وجنودها سماسرة جشعون ، وضحاياها مرضى من المواطنين من البؤساء والفقراء .
تجارة الموت !!!
انتشار ما يسميه بعض المراقبين بموريتانيا "تجارة الموت " أغرق السوق الموريتاني بعشرات الأطنان من الأدوية المغشوشة المتداولة على نطاق واسع ، وجعلها محورا من محاور تجارة الأدوية المزورة في غرب إفريقيا ، ففي السنغال ذات 14مليون يوجد 6شركات كبرى للأدوية و5 في ساحل العاج و6 في مالي المجاورة ، بينما في موريتانيا التي لا يتجاوز عدد سكانها 3 ملايين ونصف يوجد ما يزيد على الثلاثين موزعا ، فضلا عن موزعي الظلام .
وكان تقرير لمنظمة الصحة العالمية في يونيو 2011 عن قطاع الصيدلة في موريتانيا كشف عن وجود 29شركة توريد أدوية وهو عدد كبير في بلد سكانه 3مليون ونصف ، فعلى سبيل المثال في أوربا وبساكنة تزيد على 50مليون نجد أن متوسط شركات توريد الأدوية لا يتعدى من 5-إلى 10.
وحسب التقرير فقد أصبحت موريتانيا طريقا معبدا لتهريب الأدوية المزورة في إفريقيا الغربية وهو ما در مبالغ تقدر ب10مليارات دولار في عام 2012 حسب منظمة الجمارك العالمية .
وتستورد الأدوية المزورة من الصين والهند والإمارات العربية مما جعل من إفريقيا مستودعا لمثل هذا النوع من التجارة.
وفي ظل صعوبة إحكام الرقابة على المنافذ الحدودية في موريتانيا يصبح طريق هذه "تجارة الموت " سالكا فيما يجعل متخصصون من فوضى سوق الأدوية والانفتاح على القطاع الخصوصي عاملا وراء تنامي نشاط شبكات تهريب الأدوية المزورة.
فوضوية توزيع الأدوية يزيدها تضخما تعدد شخصيات الموزع الذي قد يكون صاحب صيدليات تقتضي مصلحتها الخلط بين الغث والسمين ليرتفع منسوب الربح ، كما أن سقوط الأدوية في أيدي التجار مع غياب الرقابة ساهم في ترسيخ الوضع القائم القاتم .
ثقة في مهب الريح ...
تبدأ عملية غش الأدوية بنقص المواد الفعالة فيها ولا تنتهي بصناعاتها من مواد لا تأثير لها ومن مكونات ضارة قد تسمم البدن وتودي بحياة المريض ، عملية غش أفقدت المواطن الموريتاني الثقة في الأدوية ، وجعلته يعلق كل مصيبة صحية عليها بل ويعزف عن شرائها من بلاده ، شادا الرحال إلى دول مجاورة "كالسنغال " و"مالي " من أجل الحصول على دواء غير مميت .
عبد الله يقول إنه كان قبل أسابيع في "السنغال " بعدما ذهب في رحلة استشفائية إليها ، عاد بعدها يصب لعناته على الأدوية في موريتانيا ، مؤكدا أنها هي سبب البلاوى الصحية التي يعاني منها الكثير من الساكنة .
ويضيف عبد الله ــ لبوابة إفريقيا ــ " مشكلة المرضى في موريتانيا ليست في الأطباء ولا في المستشفيات ولا في المختبرات، وإنما في تزوير الأدوية الذي يجعل المواطن يشرب عشرات الكلغرمات من الطحين ظنا منه أنه أقراصا دوائية ، لتحول إلى سموم تودي بحياته "
البيع العشوائي في الشوارع وتوزيع تراخيص الصيدليات على كل من هب ودب دون ضوابط تمثل بابا خلفيا لاستمرار تجارة الموت ، فأعداد الصيدليات في موريتانيا كبير جدًّا مقارنة بعدد الصيادلة؛ حيث يقول الشيخ وهو صيدلاني إن ”إدارة الصيدلة والمختبرات تحصي نحو 120 صيدلانيا، في حين تقدم 650 صيدليةً ومستودعًا صيدليًّا خدماتها، لأقل من ثلاثة ملايين موريتاني“.
حرب وقودها الجشع والجهل
غياب الثقافة الصحية لدى الغالبية العظمى من المجتمع ، إلى جانب ارتفاع نسبة الأمية ساهم في تغذية حرب الأدوية ، حيث يتهافت العشرات من الفقراء يوميا على ظلال الأشجار ليستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير ، من خلال شراء الموت في سوق المزاد العلني ، واقتناء أقراص ظاهرها الرحمة وباطنها من قبله العذاب .
كما أن تدني مستوى الوعي الصحي والقانوني ، وشيوع القبلية والمحسوبية يحول دون مقاضاة مجرمي الحرب الافتراضيين والذين يسفكون دماء الأبرياء ويفرغون جيوبهم ويتلذذون بمعاناتهم .
مستودعات الإتلاف
مستودعات الأدوية في موريتاينا أشبه ما تكون بمراكز الإتلاف حيث لا تتوفر على أدنى المعايير التي يتطلبها حفظ الأدوية من درجات حرارة معتدلة نظافة ورقابة مستمرة ، ونتيجة لغياب معايير الصيانة والسلامة اللازمة تفقد الادوية فاعليتها بسسب التعرض لعواصف الرياح وأشعة شمس الصحراء ، وعوامل تعريتها الملازمة .
وحسب تقرير منظمة الصحة العالمية السابق الذكر فإن إدارة الصيدلة والمختبرات تعدم الوسائل والتجهيزات وليس لديها ميزانية كافية وهناك حاجة إلى تكوين العاملين فيها .
جهود حكومية ولكن
لمحاصرة غش الأدوية تقول الحكومة الموريتانية إنها تبذل جهودا، بدأتها عام 2009 بإنشاء ’المختبر الوطني لمراقبة جودة الأدوية‘، وخلال المدة من عام 2010 وحتى عام 2013، قام المختبر بتحليل 510 أدوية مدرجة على لائحة الأدوية المرخصة من وزارة الصحة، البالغ عددها 2150 دواءً ، أثبتت نتائج تحاليلها زيادة المادة الفعالة ونقصانها في 48 مضادًّا حيويًّا، ما أدى إلى سحبها من السوق فورًا بقرارات من وزارة الصحة“.
كذلك أصدرت السلطات قرارا سياديا نهاية مارس 2012 باحتكار استيراد المضادات الحيوية والإنسولين وبعض العقاقير المهمة الأخرى.
ورغم أن القرار لم يلق ترحيبًا من الشركات الخاصة المستوردة للأدوية في موريتانيا، إلا أنها رضخت له مكرهة لا بطلة .
ومنذ بداية 2013 أصبحت الشركة الحكومية ’كامك‘ هي الجهة الوحيدة المسموح لها بالاستيراد، ومن خلالها فقط يمكن للشركات الأخرى الاستيراد.
رغم كل هذه الجهود تنفي نقابة الصيادلة الموريتانيين تطبيق أي بند من قوانين الرقابة مؤكدة أن التراخيص لا زالت تمنح بشكل فوضي ولم يعد هناك قطاع للصيدلة بل عملية اتجار واسعة في الأدوية ، وهو ما شجبته النقابة وقامت بعمليات تحسيس ضده وحتى اعتصامات متهمة وزارة الصحة بالتصامم عن مطالبها والتواطؤ مع شبكات التزوير حيث يجري توقيف المتورطين ثم الإفراج عنهم مما يشير إلى غياب إرادة جادة لمواجهة المشكل فالكثير من الأدوية مجهول المصدر على حد تعبيره.
ما يجمع عليه الكل هنا أن الحل يبقى في يد السلطات العليا ، وأن الموت جوعا أولى من إبادة شعب بحرب صامتة .