لم يعد أمام الليبيين متسع من الوقت للنظر إلى الوراء. المستقبل اليوم أهم مما سجل في السنوات العشر الماضية. أن يفكّر الإنسان في مستقبله أفضل وأكثر ربحا للوقت من سنوات شاهدة على الفوضى والدمار. لكن من حقهم وهم يبحثون على وضع أفضل أن يضعوا أمام سجل هذه السنوات مرآة يقيمون فيها كل من وضع في مسؤولية وكل من جاء رافعا شعارات يعرف هو قبل غيره أنها خارج السياق ولن تكون للمواطن الليبي إلا مهدئات يعود ألمها بانتهاء فاعليتها.
إذا أخذنا في الاعتبار المجلس الانتقالي الذي شكّل في وضع يعرف المتابعون للشأن الليبي تفاصيله، يكون عدد الحكومات التي تعاقبت على ليبيا بعد تحولات 2011، بنفس عدد السنوات التي مرّت. البلد الذي أوهموه بأمجاد جديدة وبمستقبل واعد شُكّلت فيه عشر حكومات بالتمام والكمال وهذا كاف لنعرف الواقع الذي عاشته البلاد بعد الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي.
أن نقوم بعملية تقييمية للحكومات العشر، لا يعني المرة أن توضع للجلد أو بغاية تصفية حساب سياسي معها وإن كان ذلك عاديا حتى بمنطق مقارنة السابق باللاحق. أن توضع تلك الحكومات على طاولة المساءلة، فهذا معقول وحق لكل ليبي أوهموه بجنة مستقبلية لم تكن موجودة أيام القذافي. ربما تختلف التقييمات بين رافض للمسار في مجمله وبين من يتعامل مع الواقع الجديد يريد وضع من حكموا خلال هذه السنوات أمام حقيقتهم التي يريدون الهروب منها، لكن الصورة تقول أنها كلها حكومات تعثر وفشل.
لا يمكن في كل الأحوال القيام بجرد حصيلة كل الحكومات، لكن يمكن اختيار نماذج لحكومات أعقبت 2011، وعبرها يمكن البناء على البقية، والاختيار على بعضها هنا ربما لأنها الأولى من حيث التشكل وربما لأنها الأفشل وربما لأنها الأطول فترة، المهم في كل ذلك أننا أمام أمثلة تجتمع في شيء واحد هو العجز عن التقّدم وتغيير واقع الليبيين الذي بدورهم أصبحوا ينظرون إلى تلك السجلات كالرسام الذي ينظر إلى لوحة زميله ولا يرى فيها شيئا يعجبه.
تعتبر الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الرحيم الكيب، الجسم السياسي الأول المشكل بعد إطاحة الناتو بالعقيد معمر القذافي. لم تأت بعد انتخابات ولا بإرادة شعبية موحدة، ولم تأت في وضع عادي يمنحها أي شرعية وجود، فقط جاءت بعد تزكية من المجلس الانتقالي الذي يبقى الشاهد الأول والدائم على ما حصل لليبيا والليبيين.
بقيت حكومة الكيب حوالي تسعة أشهر. وجدت نفسها وسط زخم الشعارات والأحلام الكثيرة وفي ظل حظوة دولية وتسويق لما حصل في ليبيا على أنه الجنة الموعودة، ليجد نفسه أمام واقع مختلف محكوم بالانفلاتات والفوضى. مع تلك الحكومة لم يعش الليبيين كما وعدوهم، لم يتغيّر الوضع الاقتصادي، الوضع السياسي كان أشبه بالحالة الكاريكاتورية التي لا تصنّف ضمن مفهوم واضح، وضع اجتماعي متشنج يريد الحلول العاجلة، الشيء الوحيد الذي تغيّر هو الحالة الأمنية. والتغيير هنا ليس بمعنى الاستقرار والهدوء، بل نحن مسار آخر مازالت ليبيا تعانيه إلى اليوم وهو انتشار المليشيات. لا شيء يميّز الحكومة الانتقالية مثلما تميّزها في إطلاق يد مسلحي الشوارع الذي لا ضابط ولا رادع لهم.
في فترة الكيب قتل الناس على هوياتهم، عائلات شرّدت وهجّرت، منازل افتكّت، ممارسات إجرامية ارتكبت، وكل ذلك بشعارات "الثورة" وحماستها، فاللحظة "الثورية" تلك سمحت بأن يقتل الناس لأنهم كانوا رافضين لها، أو كانوا أوفياء لنظام العقيد القذافي. بالنسبة إلى أولئك الحرية تُرْفعُ إلى ما يريدون هم، حرية انتقائية تصنف المختلف مجرما وجب قتله.
في حكومة الكيب أيضا افتتحت صفحة الفساد. حالة الانفلات لم تكن أمنيا فقط، بموازاتها كان هناك انفلات اقتصادي عبر اهدار المال العام، حيث عرفت الفترة أشهر عمليات الفساد في ما يعرف بملف علاج جرحى "الثورة" وهو من أكثر الملفات غموضا بشهادة وزيرة الصحة وقتها فاطمة الحمروش التي قالت إن "أموالاً طائلة غير معروفة الوجهة صرفت بشكل عشوائي من موازنة هذه الهيئة، استفاد منها كل من المشرفين على الهيئة والمستفيدين من الجرحى أنفسهم، مما أدى إلى استغلال هذه الأموال كمصدر رزق لهم". تضاف إلى ذلك أموال العلاج في الخارج التي صرفت دون مرورها بديوان المحاسبة لتكون فرصة سهلة للتلاعب بالملف لمنافع خاصة.
هذه إذن حكومة عبد الرحيم الكيب التي ساهمت أيضا في إطلاق يد جماعة الإخوان وتنظيم أنصار الشريعة وحررت تحركاتهما لتبدأ صفحة أخرى شعارها الأساسي الإرهاب والقتل وغياب الدولة، لكن حكومات أخرى ليس أقل ضررا من الانتقالية وما فشلت الانتقالية في منحه للفوضويين، جاءت حكومات لاحقة لتسهله لهم.
بعد الكيب وأشهر الفوضى، انتخب المؤتمر الوطني العام علي زيدان ليكون الخلف، وبعيدا عن لغة الأرقام والوضع الاقتصادي والاجتماعي، يستحضر الجميع يوم تصويت البرلمان على حكومته ودخول مسلحين إلى مقر المؤتمر بزعم الاحتجاج على التركيبة الحكومية، كما يتذكر الجميع حادثة اختطاف زيدان من مقر إقامته بطرابلس على يد مجموعات إسلامية متطرفة، ومن خلال ذلك يمكن فهم النتيجة التي كانت عليها حكومته. إلى تاريخ سحب الثقة منه بدا الرجل ضعيف الأداء وأمام عوائق كبيرة، حتى محاولاتها تشكيل فريق متنوع الاتجاهات لم يشفع له درجة الفشل الكبيرة التي وقع فيها وحتى جزءا ممن كانوا معه وأساسا الإخوان غادروا الحكومة وبدأوا في السعي إلى إسقاطه.
الوضع الاقتصادي كما الوضع الأمني في عهد زيدان لم يعرف أي تغيير. فرغم تخصيص ميزانية عامة في حدود 70 مليار دينار كان هناك عجز على التصرف المضبوط فيها مع تواصل التجاوزات المالية في عدد من القطاعات، وحتى المقترحات التي طرحها بتخفيف الدور المركزي نحو المناطق في بعض الاعتمادات جوبه بالرفض من قبل المؤتمر الذي توترت علاقته به إلى حين سحب الثقة منه والمغادرة بسجل ضعيف لا يلبي الطموحات الدنيا لليبيين. والشيء نفسه تقريبا على المستوى الأمني بتواصل سطوة المليشيات وانتشارها خاصة في طرابلس دون أن تكون حكومته قادرة على ردعها أو تطبيق القانون عليها.
بعد حكومة زيدان تعاقبت حكومات أخرى بعناوين مختلفة، مرة للإنقاذ وأخرى للانتقال وأخرى لتسيير الأعمال، وكلها تحت راية "ثورة" لا يعتقد ليبي واحد باستثناء من يعيشون بالفوضى أنها قدّمت له شيئا. وكان الانقسام في هذه الحكومات هو الطاغي دون أي أفق للحلول رغم الوعود الكثيرة.
خلال العام 2014 وما بعده، حصل تغيير جذري في الأزمة الليبية، عبر دخول الجيش الليبي إلى الواجهة في عملية الكرامة التي كان لها الدور الأساسي في تطهير شرق البلاد من الإرهاب والمليشيات. والجيش نجح في حرب الإرهاب نعم، لكن دخوله أغضب معسكر الإخوان والمقربين منه فانقسمت السلطة بشكل رسمي بين حكومة مؤقتة في الشرق وحكومة الوفاق المنبثقة عن تفاهمات دولية في الصخيرات المغربية (2015)، في الغرب.
ربما لا يمكن وضع مقارنة بين حكومة الثني والسراج لأسباب مختلفة، لكن من خلال التقييم السياسي، ليس هناك تقدّم واضح في أزمات الليبيين من الطرفين، خاصة في ظل الصراع المسلح الذي طغى على أي خيارات أخرى، لكن الفرق أن حكومة الوفاق تجاوزت منطق التحالفات إلى اصطفافات تورط ليبيا إلى اليوم في لعبة محاور كانت في غنى عنها، بالإضافة إلى عجزها عن فرض الأمن من خلال تواصل انتشار المليشيات وعجزها عن إحكام القانون ومكافحة الفساد، بالإضافة إلى الخلافات الكبيرة داخلها الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على واقع الناس في مختلف الخدمات.
10 سنوات مرت في عمر التحولات، جاءت معها ب10 حكومات بعضها لم يتجاوز الأشهر القليلة ثم غادر. لم تشترك كلها إلا في شيء واحد هو الفشل في تغيير أوضاع الليبيين، حيث انتشرت الفوضى والفساد وانعدام الأمن وغياب الأفق السياسي، وارتهنت الأوضاع لخلافات الداخل وخيارات الخارج، التي أفرزت استقالة في المؤقتة وشبه استقالة في الوفاق، في انتظار أن تأتي التحركات الأخيرة في الداخل والخارج بحلول ربما تنهي سنوات الحرب.