في الوقت الذي شرع الكاتب المغربي محمد العرجوني في حفر فكر الأنوار وتأمل حياة مفكري الغرب، كتب المفكر الجزائري، عبد العزيز بوباكير، مقالا في ذات الموضوع تحت عنوان (حين تمجد الحداثة الاستعمار.. أو "الاستعمار الذكي")، تناول فيه مواقف ألكسي دي توكفيل، من خلال الفيلسوف ريمون آرون.
« في نهاية السبعينيات، يقول بوباكير، تحوّلت مؤلفات توكفيل في الفلسفة والسياسة وعلم الاجتماع إلى مراجع لا محيد عنها لمن يدرس أصول الحداثة، ومن يهتم بالليبرالية والأنظمة الشمولية، ومن يؤرخ للظاهرة الاستعمارية، وحتى لمن يدفعه الفضول للبحث في غياهب السجون والمعتقلات (...) وكان ككل أبناء جيله من المفكرين يعيش تحت وطأة الثورة الفرنسية، وما خلّفته وراءها من أسئلة محيّرة، وخيبات أمل مريرة، وجرائم عصيّة عن الفهم (...) بعد إقامة طويلة في نيويورك وبلتيمور وواشنطن وبوسطن وفيلادلفيا وزيارة بعض السجون عاد دي توكفيل إلى بلده، وشرع في تأليف كتاب في جزأين: “الديمقراطية في أمريكا”، الجزء الأول صدر في 1835، ويتناول فيه المؤسسات الأمريكية، أما الثاني فنشر في 1840، وخصّصه للديمقراطية كحالة اجتماعية، أي طريقة التفكير وأنماط السلوك والعادات والعلاقة بالآخر. وخلُص إلى أن ما يميّز الحالة الأمريكية هي الفردانية وتكافؤ الفرص ».
« إن أصالة أفكار دي توكفيل، يقول بوباكير، وخاصة فصله بين الديمقراطية والثورة، جعلت من الأمريكيين يعتبرونه مونتيسكيو أمريكا، ونبيّ الحداثة والأب الروحي لليبرالية الحديثة. لم يكن دي توكفيل منظرا للنماذج السياسية في الحكم، أو باحثا عن مخرج لمآزق الديمقراطية في بلده وأوروبا فحسب، وإنما كان طموحه عارما في تحويل أفكاره إلى واقع ملموس. وقد ارتبط طموحه هذا بالظاهرة الاستعمارية وبالجزائر تحديدا ».
حول علاقته بالجزائر، يقول بوباكير: "تحقق حلم توكفيل بالسفر إلى الجزائر رغم مرضه. في 1846 طالب بإنشاء وزارة خاصة بالشؤون الجزائرية، معتبرا المسألة الجزائرية أهم قضايا فرنسا في ذلك الوقت. في نوفمبر من السنة نفسها يزور الجزائر مرة أخرى لمعاينة المشروع الاستعماري ميدانيا. بعد عودته إلى فرنسا يحقق حلمه ويعيّن رئيسا ومقررا في الوقت نفسه للجنة المكلّفة بدراسة المشاريع المتعلقة بالجزائر والاستعمار.
في 1859 فارق الحياة ولم يكن الاستعمار قد بسط بعد يده كاملة على التراب الجزائري. غير أن أفكاره ظلّت محل جدل حتى بعد موته في أوساط السياسيين والمثقفين والكولون في الجزائر والمتروبول.
كان توكفيل من أتباع “الاستعمار الذكيّ” ناصحا للعسكر، مدافعا عن المعمرين. ووصل إلى قناعة بعد أن زار الجزائر مرتين إلى أن أمام فرنسا فرصة أخيرة وخيار واحد: لكي تتخلص فرنسا من عزلتها القارية في “البحر السياسي”، الذي هو المتوسط، ينبغي لها أن توطّد الاستعمار عن طريق العنف والاستيطان. والهيمنة بالنسبة إليه مفيدة طالما أنها تسهل الاستعمار، وتجعل منه أمرا مفيدا. على العسكر، في رأيه، أن يقتلوا ويبيدوا ويحرقوا، ثم بعد ذلك يسلّموا السلطة للمدنيين. والهدف هو استقدام أكبر عدد ممكن من الأوروبيين للاستقرار في الجزائر.
كان دي توكفيل في أفكاره وفي ممارسته للسياسة يتأرجح بين كارل ماركس، الذي تحدث عن الجوانب الايجابية للاستعمار لما تناول حالة الاستعمار الانكليزي للهند، وبين ماكيافيلي في نصحه للأمراء والملوك في كتابه “الأمير”، الذي أطلق فيه شعاره سيء الذكر “الغاية تبرر الوسيلة”. الاستعمار في نظر توكفيل ظاهرة ايجابية، ولإدراك هذه الغاية كل شيء مبرر: الإبادة، الاستيلاء على أراضي الغير، وطمس الهوية ».
باحث، ومترجم ومؤرخ جزائري