تأتي مدينة مصراتة في مقدمة كبرى وأهم المدن الليبية لما تمتاز به من نشاط اقتصادي وتجاري كبير، علاوة على بروز عدد كبير من أبنائها وتوليهم للمهام السيادية في ليبيا في مختلف الحقب التاريخية، ومختلف الأنظمة السياسية التي مرت بها البلاد، فلا تكاد تخلو أي تشكيلة حكومية منذ عرف النشاط السياسي في ليبيا من وجود عناصر من مصراتة، بل أن أبناء مصراتة قد يكونون أكثر من تقلد المناصب الرئيسية في مختلف حكومات ليبيا منذ فترة الحكم التركي، وصولا إلى الحقبة الملكية، ومن ثم خلال فترة الجمهورية والجماهيرية.

 وخلال أحداث فبراير سنة 2011 انقسمت قيادات مصراتة فمنها من انضم لمن تحركوا ضد النظام فيما بقيت مجموعة أخرى واستمرت في مهامها، وبالنظر لعلاقة معظم تلك القيادات بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، الذي تضم مدينة مصراتة أكبر عدد من "رفاقه" نظرا لقضائه فترة الدراسة الثانوية فيها، فقد كان موقف مصراتة من الأحداث بمثابة المفاجأة حيث لم يكن من الوارد لدى معظم الليبيين أن تكون دون غيرها من ضمن المدن التي تشهد حراكا معارضا للنظام الليبي السابق إذ كان أغلب الليبيين يعتبرونها المدينة "المدللة" ليس لارتباطها بمسيرة الزعيم الليبي الراحل "معمر القذافي" الدراسية، وما تربطه بالعديد من أبنائها من علاقات (الرفاق) فحسب، بل لما حظيت به من توطين العديد من المشاريع الاستراتيجية، والمجمعات الصناعية خلال فترة السبعينيات وما أعقبها.

مع بداية أحداث فبراير شهدت مدينة مصراتة موجة من العنف قادتها مجموعة من الشخصيات التي لبست حينها ثوب "الثوار"، طغت على كل محاولات الاحتواء التي بادر بها عدد من "الحكماء"، وتحولت المدينة إلى ساحة معركة حقيقية تم التجييش لها محليا ودوليا، حيث كان المقاتلون المتمثلين في عناصر الجماعات المتطرفة "المجاهدين" يأتون على متون الجرافات عبر البحر من مدن المنطقة الشرقية، إضافة للدعم المباشر الذي كانت تقدمه عدة دول أهمها (تركيا وقطر)، وبعد انتهاء المعارك في شهر أكتوبر واغتيال القذافي ومن تبقى معه في آخر المعارك بمدينة سرت، تمكن قادة مليشيات مصراتة من نقل جثمان القذافي، ووزير الدفاع "أمين اللجنة المؤقتة للدفاع" أبوبكر يونس جابر، ونجل القذافي المعتصم بالله، إلى مصراتة وهو ما اعتبره البعض بمثابة التتويج وكسب أحقية "قيادة" ليبيا وفقا للمنادين بمبدأ المدن المنتصرة والمهزومة، لتدخل بذلك مدينة مصراتة طوراً آخر، ومرحلة جديدة.

قد يكون من المسلم به أن مدينة مثل مصراتة التي تضم فيما تضم خبرات ورجالات علم وفكر، وسياسة، وعقلاء، وحكماء، يمكنهم قيادتها إلى بر الآمان، وعودتها إلى الحاضنة الوطنية، ولكن السؤال الحائر الذي يفرض نفسه كيف لمثل هذه القوى أن تختفي ويغيب دورها؟، تحت وطأة وسطوة بعض زعماء المليشيات، والمرتبطين بهم من أصحاب رؤوس الأموال الذين ربطت بينهم تقاطعات المصالح المؤقتة، لتتحول مدينة بحجم مصراتة من نقطة قوة دافعة لتقدم البلاد إلى مدينة مخطوفة في يد مجرميها، وزعماء الحرب، وعناصر الجماعات المتطرفة، وتصبح شوكة في خاصرة الوطن.

وتشكلت في المدينة التي تضم وضواحيها ما يزيد نصف مليون نسمة، عدة قوى ومجموعات، على الرغم من بقائها جنبا إلى جنب إلا أنها حملت كل منها أفكارا تختلف فيما بينها، وهو ما يعني أن المدينة تعيش حالة من السجال الخفي بين عدة مجموعات يمكن تصنيفها كالتالي:

المجموعة المسيطرة

وهي المجموعة المتسيدة للمشهد والتي يمثلها قادة المليشيات وزعماء الحرب، وبعض المسؤولين وأعضاء مجلس النواب (مقاطعين) وأعضاء مجلس الدولة، والذين ينتمي معظمهم إلى تيار الإسلام السياسي، ويمثلهم القيادي "المليشياوي" صلاح بادي عراب "فجر ليبيا"، وفتحي باشاغا،الذي كلف مؤخرا وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق، ومحمد الرعيض، وجمعة عتيقة، وغيرهم ممن مثلوا واجهة غير مرحب بها لمدينة مصراتة، ويعتبر العديد من المراقبين بمن فيهم أبناء المدينة ذاتها أن هذه المجموعة تختطف مصراتة، وطالما وصفت بالمدينة "المخطوفة"، نتيجة لاحتكار هذه الفئة لاتخاذ القرار فيها.

ويبقى لهذه المجموعة دورها الرافض للكثير من الحوارات التي تنادي بالمصالحة واستعادة علاقة المدينة بغيرها من المدن، لاسيما تلك التي دخلت إليها مليشيات مصراتة تحت أي من الدواعي، أثناء أو بعد أحداث 2011، وتتمثل خطورة هذه المجموعة في كونها تمتلك أكبر ترسانة أسلحة في البلاد، وتأتمر بأوامرها أقوى وأكبر المليشيات، والتي يتخذ بعضها الصفات الشرعية بالانضواء تحت لواء وزاراتي الدفاع، والداخلية بحكومتي الوفاق أو الإنقاذ السابقة.

المجموعة المحايدة

وهذه المجموعة تمثل السواد الأعظم من سكان المدينة، وهي الكتلة الصامتة، وتتشكل من معظم الأهالي والمواطنيين العاديين الذين لايشاركون ولاينشطون سياسيا وميدانيا، وتبقى أهمية هذه المجموعة في كونها تقاد من التيارين المتضادين في المدينة، وعند توجيهها بشكل إيجابي فأنها ستكون بمثابة القوة الدافعة، لإن من يقودها يفوز بالشعبية ولو ظاهريا.

المجموعة المعتدلة "الوطنية"

وهي المجموعة المتوازنة التي ينشط من يمثلها في محاولات الإصلاح، والسعي للمصالحة والخروج بالمدينة من حالة "الخطف"، وهي ما يعرف في بعض الأوساط بالتيار الوطني في مصراتة، وذلك لنشاط من يمثلها في تجاوز الجهوية الضيقة والانخراط في العمل ضمن المنظومة الوطنية الشاملة،  وتتمثل هذه المجموعة في عدد من المسؤولين من بينهم رئيس المجلس البلدي السابق، محمد الشتيوي، الذي تم اغتياله داحل المدينة بعد انخراطه في عمليات مصالحة، وفتح حوارات مع تيارات وطنية من خارج مصراتة،  ورئيس مجلس أعيان بلدية مصراتة للشورى والإصلاح، الشيخ امحمد عبد العال، وعضو مجلس الدولة ابوالقاسم قزيط، والناشط السياسي حسن شابة، إضافة إلى القيادي العسكري السابق سالم جحا، الذي عرف برفضه للأعمال القتالية التي تقوم بها مليشيات المدينة، إلا أن جهودهم وأصواتهم تبقى أخفت وأقل تأثير من سابقيهم.

وتتقارب هذه المجموعة مع أبناء مصراتة الذين بقوا مع النظام إبان أحداث فبراير، سواء كانوا من المسؤولين السابقين، أو بعض القيادات المحلية الذين خرج عدد كبير منهم من المدينة بعد سيطرة المجموعات المسلحة عليها، فيما نكل ببعضهم ممن تم القبض عليهم.

وتعد هذه المجموعة هي الفئة المؤهلة للعب دور في إنقاذ المدينة، والمشاركة بشكل إيجابي في أي تسوية أو حل حقيقي لما تعاني منه البلاد، إلا أن هذه المهمة بقيت مؤجلة، بالنظر لضعف مكونها، ولطبيعتها التصالحية، في الوقت الذي تمتلك فيه المجموعة الأولى مكامن القوة، واعتمادها على آليات "راديكالية" للاحتفاظ على مكتسباتها والتي لا مجال للمحافظة عليها إلا بالإنفراد باتخاذ القرار ورفض كل محاولات إعادة دمج المدينة مع بقية المكون الوطني الليبي.

ويبقى الأمل في تغيير أطراف المعادلة، وقلب أوراقها رهنا لإعمال العقل، والعودة إلى حاضنة الوطن، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الخاصة، ولعل بعض البوادر التي أصبحت تظهر من الحين إلى الآخر تؤتي أكلها، والمتمثلة في المطالبة بتخليص المدينة من ربقة المليشيات، وعودة المدينة إلى الصف الوطني.