رسخ الإنجليز لمسألة اختيار القيادات الأولى من زعماء القبائل على أسس قبلية وجهوية، وذلك كما يمتعون به من احترام بين أفراد قبائلهم، وقد تبع ذلك اختيار أبناء الطرق الصوفية لأنهم يمتعون بكثير من التقدم لدى العامة، وتوارثت الأسر هذه المناصب التنفيذية والتي لا يكون الاختيار لها إلا وفقاً للكفاءة والخبرة.. وفي المناطق البدوية تحظى القبيلة وزعماؤها باحترام كونهم يحلون كل المشاكل، ويقومون بدور القاضي فيما يتعلق بالنزاعات، والمأذون في الزواج فأصبح الجميع يعتقد فيهم، ويرى أنهم أصحاب مكانة عليا لا ينبغي الاقتراب منها..

عندما جاءت الأحزاب بعد الاستقلال لم تجد أمامها سوى قيادات الإدارة الأهلية وأعطتهم المناصب التنفيذية العليا لأنها كانت تسعى لكسب ولائهم وكل الحكومات التي تعاقبت على السلطة منذ الاستقلال حرصت أحزابها على ضم القيادات الأهلية الى صفوفها وثبت هذا الاعتقاد منذ ذلك الحين حتى اليوم.. ولذلك فإن هذه القيادات ظلت ثابتة منذ ذلك الحين وحتى اليوم برغم فشلها في الكثير من القضايا.. أما الذين يقطنون على النيل اختلطوا مع مجموعات كبيرة قادمة من مناطق أخرى بعيداً عن النيل أو خارج السودان، فاكتسبوا ثقافات وقيم جديدة لا تقدس القبلية، وعندما نشأت المدن سادت قيم المدينة وتزاوج الناس من مختلف القبائل ولم تعد القبلية تحظى بتلك المكانة، بعد أن نجمت عن التزاوج أسر مشتركة، لذلك نجد أن مناطق دارفور وكردفان وجنوب السودان الأكثر تمسكاً بالقبلية.

ورثت الإنقاذ هذا الوضع وبدلاً من محاربته رسخت له وأصبح لرجال الطرق الصوفية والإدارة الأهلية الحظ الأوفر في الاختيار للمناصب العليا، ومضت الحكومة على هذا النهج، وحتى على مستوى المحليات الآن يتم التعيين حسب القبيلة والجهة.. ولعل ما يحدث الآن في دارفور بين زعيم المحاميد الشيخ موسى هلال، ووالي شمال دارفور عثمان محمد يوسف كبر خير دليل على أن الولاء القبلي لم يخلف سوى حرب أخرى على المناصب، وهو ما أشار اليه د. الأمين عبد القادر نائب رئيس حزب الأمة القيادة الجماعية بالقول.. نستنكر «المد القبلي» داخل مؤسسات الدولة.. وأضاف أن القبلية والجهوية في اختيار الولاة والمسؤولين والتقسيم على أساس قبلي جعلت العملية السياسية ترتمي بأكملها في أحضان القبيلة والجهوية، ودعا لارجاع الأحزاب الى دورها وتواصلها مع قواعدها، وطالب عبد القادر الحكومة بوقف الذي يحدث في دارفور الآن عبر الحوار الجاد، وإعادة المؤسسات السياسية لمواقعها، وإرجاع الجميع للاستماع لصوت العقل، وقال لابد من الحل الحاسم الذي يتفق مع ما يرجوه الشعب السوداني وأن لا يرفع شخص السلاح في وجه الحكومة، وأن لا يؤازر شخص في ذلك.. 

وقلل د. الأمين عبد القادر من الندوات والورش التي لا تخرج بتوصيات داعمة لاشراك الجميع في الحل الوطني.. وقال عبد القادر إن اي ندوة تقام حول قضية دارفور دون أن تدفع بمذكرة للجهات المختصة الهدف منها «الجعجعة الميدانية»، ومحاولة اثبات الوجود، وفي تقديرنا أن الرجل هنا أبدى رأياً صريحاً جريئاً.. فالملاحظ أن هناك قضايا وطنية تحاول بعض الأحزاب «الصغيرة» والذين يبحثون عن كاميرات الإعلام وتسليط الضوء على «أنفسهم» وبحثاً عن وجود سياسي باعتقاد خاطيء أن اضواء الشاشات والحديث عن قضايا الوطن والاستثمار في القضايا التي تشغل الساحة السياسية يحقق المكاسب، وهذه بالطبع «انتهازية» سياسية في لحظة انتباه وحضور من الجميع، والمطلوب هو مشاركة فكرية حقيقية وعصف ذهني جماعي يأتي بحلول تصب في وقف نزيف الدماء بدارفور، وهو ما أشار إليه نائب رئيس حزب الأمة القيادة الجماعية بقوله.. لسنا من أنصار صب الزيت على النار، وعلى كل حزب راشد أن يهتم بالمشاركة حقيقة وتقديم مقترحات وروى في إطار أهمية اشتراك الجميع سواء كانت مجموعات صغيرة أو أحزاب وقوى سياسية في القضايا الوطنيةوالادلاء بدلوهم والاستماع إليهم على الجانب الآخر، ويرى البعض أن الترضيات كانت سبباً في فشل ملتقى كنانة رغم دفاع آخرين عن الملتقى وعددوا بعض بنوده التي تم إنزالها على أرض الواقع وأقروا بأن الملتقى لم يحقق ما يرجو منه، وأرجع عبد القادر ذلك للاهتمام بالجانب الإعلامي أكثر من الاهتمام بالجانب التطبيقي وتنفيذ أدبيات كنانة وإنزالها الى أرض الواقع.

ورد ابوبكر عبد الرازق القيادي بالمؤتمر الشعبي المسألة الى غياب الحريات والتنافس الحزبي، وأنها كانت سبباً أساسياً في إعلاء القبلية، وقال عبد الرازق إنه عندما تغيب الحريات والفكر تبرز الفردية والقبلية.. وأضاف أن القبلية المستحكمة والمستكينة في اختيار الولاة والحكام هي إفراز طبيعي لدولة الاستبداد والجبروت والطغيان- على حد قول عبد الرازق- الذي أكد أن المؤتمر الوطني رسخ للقبلية في سبيل الحفاظ على الحكم.. ويشير عبد الرازق الى أن ما يحدث في دارفور ليس صراعاً قبلياً ولكنه شخصي.. قال في ظل الاستبداد تتحول القبيلة لعزوة السلطان في كل الحقب التاريخية لابل صالحها العام.. وأضاف بالقول.. لو كان هناك حرية لقلة حدة التنافس القبلي على السلطة ومقاعد الوزارة.واتفق الجميع على أن الإنقاذ الآن تجني ثمار القبلية والاختيار للولاة والمعتمدين في الولايات على حسب الجهة صراعاً داخل بيتها وبين حلفائها، بحصد الأرواح والمدنيين بدارفور، وأرقام ضخمة لنزوح أهل دارفور في ظل تصفيق وترحيب المحرضين من الخارج.

*صحيفة آخر لحظة