لا يمكن الحديث عن اختفاء تنظيم داعش من مكان بعينه. التنظيم الجهادي خلال سنوات قليلة ملأ الدنيا وشغل الناس في أكثر مكان سواء من خلال تمركزه في عدد من الدول بداية من سوريا والعراق وصولا إلى ليبيا واليمن وأفغانستان، بالإضافة إلى محاولته في مصر وتونس اللتين كانتا أفضل حظا وتأهبا في مواجهته. لكن العام 2017، كان الصورة المغايرة للتنظيم المتطرّف بعد هروبه التدريجي في المناطق المذكورة، حيث عرف حالة أشبه بالانهيار فتحت التساؤل حول حقيقة القوة المزعومة والخطر الداهم و"الدولة" الجديدة إلى غير ذلك من التسميات التي خرجت في لحظة "التطبيع" العالمي معه في بداية تشكّله الرسمي العام 2014 وإعلان خلافته من خلال بعض المناطق السورية والعراقية.
ليبيا من الدول التي كانت ضحية هذا التنظيم المتطرّف، حيث ساعدته الفوضى التي عاشتها البلاد بعد 2011، في التمركز في أكثر من مكان في شرقها وغربها حيث أعلن أبو بكر البغدادي في نوفمبر 2014 عن تمركز التنظيم في برقة وطربلس وفزان عبر مجموعة من الشباب العائدين من القتال في سوريا (ليبيين وأجانب) وتأسيسهم لما عرف في مرحلة أولى بمجلس شورى شباب الإسلام. وإعلان داعش عن نفسه في تلك المناطق هي رسالة أنه وضع يده على المحاور الرئيسية في الجغرافيا الليبية، أين كان مقررا أن يبدأ مشروعه "التوسعي في بقية المناطق لولا تغيرات الأمر الواقع التي غيرت تكتيكه في مرحلة لاحقة.
في بداية 2015، كانت سرت على موعد مع موكب كبير من السيارات والمركبات المسلحة أين أصبحت المدينة جزءا من "دولة الخلافة" المبايعة لأبي بكر البغدادي، وهي الفترة الأكثر خطورة وغموضا منذ توتر الأوضاع في ليبيا. فالتنظيم المعلن عن نفسه في ليبيا بقيت عملياته معزولة وحتى الجرائم التي يرتكبها كانت على فترات متفرقة، ولم يكن يحتل منطقة معينة مثلما حصل في سرت. فالمدينة التي ينحدر منها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي ذات رمزية خاصة، وربما يدرك التنظيم الجهادي تلك الرمزية. أراد أن يوجه رسالة لليبيين وحتى للخارج، بأن مدينة العقيد هي اليوم جزء من "دولة الخلافة" بمعنى ضرب الجانب النفسي لجزء من مؤيدي النظام السابق الذين بقي ذهنهم مرتبطا بالقذافي والمدينة التي جاء منها على اعتبار أن الأخير كان خصما عنيدا للتيارات العنفية وعلى رأسها المتبنية للإسلام الجهادي.
مثل الرقة في سورية والموصل في العراق، كانت سرت محور الصراع الأساسي للتنظيم في مواجهة خصومه. الحقيقة أن كثيرين لم يقدروا خطورة تمركز تنظيم جهادي في منطقة من المناطق، خاصة التي تعيش أوضاعا سياسية وأمنية مضطربة مثل ليبيا، لكن الحقيقة الأخرى والأكثر إيلاما أن قوى إقليمية ودولية تواطأت بشكل مفضوح مع التنظيمات الإرهابية في كامل المنطقة العربية. إقليميا كانت قطر وتركيا الدولتان الرئيسيتان الداعمتان لداعش على الأقل في بداية تشكله وصورتاه أنه جزء من "الحراك الثوري" المشتعل في المنطقة. قطر كانت الخزينة التي تدفع دون توقف وتركيا كانت المركز الذي مرت من خلاله عناصر التنظيم إلى الأرض السورية أو جوا نحو ليبيا. أما الولايات المتحدة والغرب بصفة عامة فكانا غير مهتمان بما سيحصل للمنطقة مادام حليفهما الأساسي (الكيان الصهيوني) المتفع مما يحصل.
في سرت تغيّرت حياة الناس لأكثر من سنتين. أعاد التنظيم الناس إلى الحياة البدائية. كان التنظيم بعناصره يتمتعون بالأموال وكان الناس يعانون الاضطهاد والظلم والتقتيل وتغيير نمط حياتهم. لسنتين كان العالم يشاهد وكأنه راض عما حصل لليبيا وأهلها. لم يكن يحس المرض إلا سكان سرت الذين لم تسعفهم الظروف للدفاع عن مدينتهم، بالإضافة إلى ظلم ذوي القربى الذي أكثر إيلاما.
مع بداية العام 2017، تم طرد تنظيم داعش من ليبيا. العملية لم تكن سهلة وراح ضحيتها العشرات من أبناء الشعب الليبي الذي شاءت الأقدار وظروف البلاد أن يكونوا وقودا لمعركة أغلبهم لم يكن طرفا فيها. صحيح أن من طردوا داعش محسوبون على سياسيي طرابلس الذين يحملهم كثيرين مسؤولية ما حصل، لكن الهبة التي تمت كانت عاطفية إيمانا من المقاتلين أن معركة مصير البلاد التي يجب أن تنجح، لكن السؤوال الذي يطرحه كثيرون هل طويت صفحة داعش في ليبيا أم مازال التنظيم يبحث عن متنفس له وينظم صفوفه للعودة.
بعد تطهير سرت، تساءلت بعض التقارير عن ألاف المقاتيلن التابعين لداعش في ليبيا. الهزيمة التي مني لا تخفي تساؤلات حقيقية عن مستقبل أولئك المقاتلين. ففي تصريحات صحفية سابقة قال الدبلوماسي الليبي السابق عبدالرحمان شلقم أن هروب التنظيم من سرت لا يخفي تواجده في أكثر من 70 منطقة في ليبيا. ومهما كانت المبالغة في تصريحات شلقم لكن هناك حقيقة واضحة أن تنظيما بتلك القوة والإمكانيات التي ظهر بها خلال سنوات سيطرته لا يمكن أن ينتهي بتلك الطريقة وفي فترة زمنية قصيرة، والخطر الذي يهدد البلاد مازال قائما، خاصة أنها لم تعرف استقرارا سياسيا وأمنيا يمكنها من ضبط حدودها وجغرافيا، وما الأحداث التي مرت بها طرابلس منذ بداية سبتمبر إلا دليلا على أن مجهودات كبيرة يجب أن تبذل من كل الأطراف الليبية من أجل حماية البلاد من داعش وغيره.