الفيلم القصير الذي بثه تنظيم داعش قبل أيام والذي يظهر فيه واحد وعشرون مواطناً مصرياً كانوا قد اختطفوا قبل هذا التاريخ بقرابة خمسين يوماً وفي ظروف غامضة داخل الأراضي الليبية، ويقف خلف أولئك المختطفين وجميعهم من الأقباط المصريين واحد وعشرون ملثماً يحمل كل واحد منهم سكيناً، وهي الصورة التي باتت تميز تنظيم داعش في أية أرض يظهر فيها، ليوجه من يبدو أنه قائد تلك المجموعة من القتلة رسالة موقّعة بالدم إلى العالم محذراً بأن أوروبا باتت على مرمى حجر. كان هذا الفيلم الوحشي بمثابة منعطف جديد سيقود العالم بأسره للتفكير أكثر في خطورة هذا التنظيم، فكيف قفزت داعش من العراق والشام إلى ليبيا، وما هو السر في اختيارها هذه الأرض؟

تحولات الحراك

في العام 2011 وبينما كان نظام القذافي يتهاوى تحت وطأة الثورة الشعبية التي اندلعت ضده، والتي ساندتها حملة عسكرية مكثفة من قبل حلف الناتو، لم يجد العقيد بداً من أن يحذر العالم بأن تنظيم القاعدة سيحكم قبضته على البلاد إذا زال نظامه، وستتحول منطقة شمال أفريقيا إلى أفغانستان جديدة، وكان النظام الليبي قبلها يمتلك تأثيراً لا بأس به على بعض القيادات القاعدية من الجماعة الليبية المقاتلة والتي كانت معتقلة لديه، وخاصة بعد المصالحة التي كان نجله سيف الإسلام يقوم بها وقد أثمرت تلك المصالحات عن “توبة مؤقتة”، وتحول بعض أولئك المتطرفين إلى مبشرين بما سيعرف بعد ذلك بمشروع ليبيا المستقبل الذي كان يقوده سيف الإسلام نفسه، وستظهر الصور القذافي الصغير وهو يتوسط عدداً من أولئك الجهاديين وهم يعلنون بدء الانتقال إلى حقبة جديدة.

لكن تلك الحقبة لم يكتب لها أن تستمر طويلاً فمع اندلاع الثورة انضم عبدالحكيم بلحاج أحد قادة الجماعة المقاتلة وهو الذي يمتلك خبرة ميدانية لا يستهان بها تلقاها في معسكرات تدريب القاعدة في قندهار إلى صفوف الثورة بل وأعلن نفسه في مرحلة سابقة كواحد من قادتها، والأمر نفسه حدث مع عدد من “الجهاديين” الآخرين، فقد ترأس اسماعيل الصلابي شقيق علي الصلابي المقرب من رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي ميليشيا راف الله السحاتي، وهذه الميلشيا بالإضافة إلى عدد آخر من التنظيمات الجهادية، سيشكل بعض أفرادها وقادتها النواة الأساسية لما سيعرف لاحقاً بتنظيم أنصار الشريعة الذي أعلن عن تشكيله في شهر مايو عام 2012 في مدينة بنغازي، وقد أسقط التنظيم العلم الليبي في أول ظهور علني له ورفع بدلاً عنه العلم الأسود نفسه الذي يرفعه تنظيم القاعدة، والذي سيرفعه لاحقاً تنظيم داعش.

وقد وضع تنظيم أنصار الشريعة فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية كواحد من أهم الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، في الوقت الذي مازالت فيه ليبيا تعاني من فوضى خلفتها الثورة أو حرب التحرير وعدم استقرار سياسي ناتج عن تجاذبات بين القوى السياسية التي كانت تخشى فيما يبدو من صعود قوى الإسلام السياسي واستيلائها على السلطة، بحجة أنها شاركت في الثورة وكان لها الأثر الأكبر في إسقاط نظام العقيد القذافي.

في الحادي عشر من سبتمبر من العام 2012 هاجمت مجموعة مسلحة القنصلية الأميركية في مدينة بنغازي وقد أدى ذلك الهجوم إلى مقتل القنصل الأميركي وثلاثة آخرين وقد وجهت أصابع الاتهام إلى جماعة أنصار الشريعة، التي تركز تواجدها في مدينة بنغازي بالإضافة إلى مدينتي درنة وسرت وقد ضمت عدداً كبيراً من الجهاديين والتكفيريين، وبعضهم من حملة الجنسية التونسية.

كانت الولايات المتحدة وبالتزامن مع إعلانها العداء للتنظيمات الإسلامية المتطرفة في الشرق الليبي تبذل قصارى جهدها لدعم قوى الإسلام السياسي في العاصمة طرابلس وخاصة جماعة الإخوان المسلمين التي يبدو أنها وجدت فيها بديلاً عن فشلها في مصر بعد الثورة التي أطاحت بالرئيس الإخواني محمد مرسي، وبرز تحديداً دور لا يستهان به للسفيرة الأميركية في ليبيا ديبورا كي جونز التي لم تتأخر في عقد صداقة مع عدو الأمس عبد الحكيم بلحاج وقد أدت هذه التطورات إلى فصل طرابلس العاصمة عن سواها من المدن الليبية، وتحولت بنغازي إلى معقل لتنظيم أنصار الشريعة الذي يمتلك ترسانة عسكرية لا يستهان بها، وقد استولى على عدد من المقار الحكومية السابقة وحولها إلى مقار له، فيما بسط سيطرته الكلية على مدينة درنة واعتبرها بداية تحقيق حلمه في إنشاء إمارة إسلامية ففرض قوانينه الخاصة، واستبدل حتى أسماء الشوارع والساحات العامة، وقد حدثت عدة مناوشات بين عناصر التنظيم وقوات الجيش الليبي كانت تسفر دائماً عن خسارة الجيش الليبي وذلك بسبب افتقاره إلى التسليح الكافي لمواجهة التنظيم.

وقد اتهم بعض أعضاء المؤتمر الوطني العام الليبي الحكومة الليبية بأنها تقوم بتمويل تلك التنظيمات وأن الأموال تدفع لمقاتليها على اعتبار أنهم من الثوار الذين شاركوا في ثورة السابع عشر من فبراير التي أطاحت بالعقيد القذافي، واتهمت بعض القوى الليبية ما يعرف باسم غرفة عمليات ثوار ليبيا بالتنسيق مع تنظيم أنصار الشريعة من أجل السيطرة على البلاد، وقد شهدت عدة مدن ليبية اشتباكات متفرقة، دفعت وفي شهر مايو من العام 2014 اللواء المتقاعد خليفة بلقاسم حفتر لإطلاق عملية الكرامة والتي كان الهدف منها وفق ما أعلن وقتها محاربة الإرهاب والقضاء على الفكر التكفيري، وقد شهدت مدينة بنغازي تحديداً معارك ضارية بين قوات الجيش الليبي بقيادة حفتر، وقوات تنظيم أنصار الشريعة.

كيف وصلت داعش؟

حتى تلك الفترة لم يكن تنظيم داعش قد عرف طريقه إلى الأرض الليبية فهو وبعد أن تشكل في العراق أولاً ثم في سوريا، وقد استقطب عدداً لا بأس به من الجهاديين من منطقة المغرب العربي، كان يبدو أن حدوده لن تتجاوز مسماه أي الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن عودة بعض أولئك الجهاديين من سوريا أو العراق وعدم تمكنهم من دخول تونس والمغرب، وفي ظل الانفلات الأمني الحاصل في ليبيا فقد كانت وجهتهم هي الانضمام إلى أنصار الشريعة الذي كان بعض قيادييه ومقاتليه من التونسيين كما أسلفنا.

كل هذا شكل نواة للبدء بالتفكير من قبل قيادة تنظيم داعش بالتوسع باتجاه المغرب العربي، وقد حدث ذلك فقد أعلن أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم وفي خطاب له أعقب انطلاق عمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، أعلن أن دولته الإسلامية المزعومة ستصل إلى حدود ليبيا، وهذا ما حدث فقد تحول جزء من أنصار الشريعة إلى داعش، لسببين اثنين كما تفيد مصادر من داخل التنظيم الأول هو اختلاف أولئك المتحولين مع قيادة تنظيم أنصار الشريعة بسبب عدم قدرة أنصار الشريعة على بسط سيطرته على مناطق جغرافية أوسع، والسبب الثاني هو وصول أولئك الجهاديين المحملين بوصايا من قيادة داعش للتوسع، وهكذا تحولت مدينة سرت إلى معقل أو نواة أولية لتنظيم داعش وقد استقطب ذلك المعقل عدداً من مقاتلي كتائب القذافي الذين وجدوا في انضمامهم لداعش فرصة للثأر من الثورة التي سلبتهم نظامهم، وحولتهم إلى مطاردين، وقد سيطر التنظيم على مقرات لمحطات إعلامية في مدينة سرت، كما سيطر داعش على مجمع عيادات المدينة وفصل بين الجنسين من الأطباء والممرضين، و قام التنظيم فعلاً باستعراض قوته أكثر من مرة من خلال ما سمتها العروض العسكرية ملوحاً مراراً وتكراراً لدول “الغرب الكافر” بأنه بات قريباً منه.

تبدو العاصمة طرابلس إلى حد ما بعيدة عن كل ما يحدث فهي تقبع آمنة، وإن كان شريط إعدام المصريين الأقباط قد حمل تسمية ولاية طرابلس إلا أن المعلومات المؤكدة تشير إلى أن عملية الإعدام تمت على شواطئ مدينة سرت، ومع هذا فإن القوى التي تقود القرار السياسي شككت في أن تكون العملية برمتها قد تمت على الأرض الليبية وقد استنكرت رد الفعل المصري الثأري الذي أسفر عن قصف مدينة درنة، بل واستغرب عدد من المراقبين أن تقوم القوات المصرية بقصف درنة أصلاً، لكن جغرافية انتشار الجماعات التكفيرية في ليبيا تؤكد أن درنة هي واحد من أهم المعاقل، وقد أسلفنا أن هذه المدينة قد تحولت إلى ما يمكن اعتباره إمارة إسلامية وفق توصيفات الجهاديين.

ويمكن القول إن الانشقاق الحاصل في ليبيا بين شرقها وغربها تحديداً له ما يفسره، إذ أن مدن الشرق قد عانت أكثر ما عانت من استشراء ظاهرة الجهاديين، والجماعات التكفيرية وقد دفعت ثمناً باهظاً، وبنغازي على وجه التحديد نتيجة اصطدامها المباشر مع تلك الجماعات وهي تخوض منذ سنة تقريباً حرباً معهم، أسفرت عن طردهم من بعض معاقلهم، فيما تخضع طرابلس العاصمة لسيطرة بعض الميلشيات تحت مسميات ثورية وهي تقود قرارها السياسي بسبب التحالف غير المعلن بين جماعة الإخوان المسلمين التي تفرض سطوتها على مفاصل الدولة الرئيسة بعد أن تمكنت وبفضل قانون العزل السياسي من إقصاء الجميع والتحكم بالقرار، وبين قيادات الجماعات التكفيرية التي أخذت لأنفسها مسميات جديدة مثل قوات فجر ليبيا ودرع ليبيا وكذلك غرفة عمليات الثوار.

-العرب اونلاين