انطلقت الأحد 22/05/2022 في سويسرا اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي 2022، التي تعقد في مدينة دافوس السويسرية، خلال الفترة من 22 إلى 26 مايو الجاري، تحت عنوان "التاريخ عند نقطة تحول: السياسات الحكومية وإستراتيجيات الأعمال". الأكيد أنه لا يستطيع أحد أن ينكر جدية الشعارات التي تجتمع تحت رايتها النخبة من قادة وشخصيات منتدى دافوس، ولا يريد أحد أن يشكك في قدرتها على تحسين حالة العالم، في حال التزامها بما تطلقه من شعارات، وتطرحه من أفكار، ولكن الرحلة إلى ذاك الوادي النائي في الجبال السويسرية طويلة، فما السر في ذلك؟ وهل ثمة أمر يستوجب مشقة العناء تلك؟ لا شك أن منتدى دافوس الاقتصادي إسم كبير وعنوان عريض لتداول الأفكار بشأن التحديات المتزايدة والمعقدة التي تواجه عالمنا، ومناسبة لوضع حلول لإصلاح ما خربته الأيدي العابثة طوال سنوات، ولكن هل هو هكذا فعلا؟ في كثير من الحالات فإن الإجابة لا، بل هو أقرب إلى مكان للنقاش والتفكير والحصول على أفكار جديدة، سواء في الجغرافيا السياسية أم القضايا التجارية والعلوم المتطورة وحتى قضايا غريبة الأطوار. ونسأل مرة أخرى: هل منتدى دافوس يستطيع أن يصنع المعجزات؟ فإذا كانت منظمات دولية متخصصة لم تتمكن حتى الآن من فعل شيء. فهل يعقل أن يستطيع مثل هذا المنتدى، والذي أساسا لا يأخذ الطابع الرسمي، كما أن توصياته وقراراته غير ملزمة لأحد.
من هذا المنطلق يمكننا القول الفصل، أن منتدى دافوس ليس مناقشات وعملاً جاداً، إذا ما أحسنا الظن، بل لقاء يتيح الفرصة لتبادل العلاقات الاجتماعية والسياحية، سواء كان على منحدرات التزلج في جميع أنحاء المنتجع الجبلي، أم خلال حفلات العشاء الخاصة التي يقيمها، كما أنه المكان المناسب لعقد الصفقات البعيدة كل البعد عن هدف المنتدى. وإنه لمن الطريف أن يتابع العالم بإمعان ولهفة مجتمعات الأغنياء وأصحاب النفوذ والمال الذين انتقوا قبل بضع سنوات، من بين جميع مدن العالم، منتجعا سويسريا للالتقاء وللحوار حول أحوال العالم الاقتصادية: فكان منتدى دافوس الاقتصادي، إذ تعالت أبراج المال العاجية والقصور والفنادق الفاخرة والسيارات الفارهة ليناقش المجتمعون الذين ينتمون إلى قومية واحدة، بغض النظر عن انحداراتهم الإثنية، وهي "قومية الأغنياء"، القومية التي تقف نقيضا لـــ"قومية الفقراء" أينما كانوا، بغض النظر عن الجنس واللون، الدين والجنسية.
الثابت لدينا الذي لا يقبل الشك، أنّ القرية الصغيرة الواقعة وسط الجبال السويسرية والتي ينعقد بها منتدى دافوس 2022 فقدت براءتها، فقد أصبح المنتدى ساحة أيديولوجية محضة للدفاع عن مصالح الشركات الكبيرة في العالم، الأيديولوجيست الكبار يختلفون عن أيديولوجيتنا فصناعة تمويه الخيارات في الثقافة الغربية بلغت شأنا بعيدا ومنذ سنوات على سبيل المثال، ومنتدى دافوس يقدم خطابا إنسانيا براقا للغاية يظهر فيه المنتدى بمظهر المهموم حتى النخاع بالهموم الكونية العابرة للحدود مثل: مشاكل الهجرة والأمن الغذائي والمناخ، وقد أضاف إلى ذلك الوضع في أوكرانيا. إن المؤكد أن المخاطر الكونية والاجتماعية التي يتحدث عنها المنتدى قائمة وحقيقية غير أن القضية تكمن في زاوية الرؤية والمعالجة فلم يحدث أن بلور المنتدى موقفا محددا من أي قضية اجتماعية تحدث أو يتحدث عنها.
فما الذي يستقطب في دافوس؟ وما الذي يدفع لكثافة الحضور والمُشاركة؟ وهل حافظت مؤسسة دافوس على مُوجبات نشوئها من أنها غير ربحية وأهدافها تشجيعية؟ راجعوا شروط العضوية، والأرقام المالية المُعلنة التي ينبغي تسديدها لحجز الحضور والمشاركة والاشتراك للدول والشركات والأفراد. منذ تأسيس منتدى دافوس وحتى الآن، لم يستطع أن يقدم حلاً واحداً لأي من المشكلات العاصفة في العالم، سواء فيما يخص الاقتصاد أم المناخ أم التنمية والفقر أم النزاعات المسلحة وغيرها، بل يزيد من تفاقمها، كون الدول الكبرى تستغل هذا المنتدى لفرض أجندتها وتكريس هيمنتها على الشعوب والدول الفقيرة، سياسيا وأمنيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا.
المشاركون سيناقشون على مدار خمسة أيام، التحديات العالمية غير المسبوقة التي تواجهها الحكومات حاليا، بما في ذلك التعافي فيما بعد الجائحة والأزمة الأوكرانية وتغير المناخ، وفي تقديري الشخصي أنّ السيناريوهات المستقبلية لن تكون لمصلحة الشعوب التي تئن تحت وطأة السياسات الاقتصادية للدول الكبرى، وإنما لإيجاد آلية عمل جديدة في كيفية تقاسم الثروات وزيادة رأس المال للشركات العالمية بهدف إحكام سيطرتها على أسواق الدول الفقيرة، وإبقاء احتكارها للمعرفة والتكنولوجيا، والترويج لثقافة الاستهلاك والتبعية. صحيح أن المنتدى لا يصدر قرارات ملزمة، لكنه يشكل فرصة سنوية لتبادل الصفقات بين الدول الغنية على حساب الفقيرة المغلوب على أمرها، فالدول الكبرى تمتلك عناصر القوة والثروة، وتهدد بهما استقرار باقي الشعوب من خلال خلق الأزمات لديها، والتدخل في شؤونها ومقدراتها، وبالتالي منعها من إدارة اقتصادياتها بالشكل الذي تريد، وإجبارها على تخصيص الجزء الأكبر من دخلها القومي للدفاع وشراء الأسلحة، بدلاً من استثماره في قضايا التنمية والتعليم والرعاية وما شابه. أكثر من مليار شخص في العالم يعانون الفقر والمرض والجوع، بسبب سياسات القوى الكبرى، وإمساكها بخيوط الاقتصاد العالمي، وتحريكها منظمة التجارة العالمية وفق مصالحها الخاصة، وإذا لم تحدث أي إصلاحات جذرية لتلك المنظمة، فإن الفقراء سيزدادون فقراً، والأغنياء سيزدادون ثراء، وإذا لم تتفق الدول النامية على نهج اقتصادي يخدم مصالحها فستبقى خاضعة، وتنتظر فتات الأغنياء الذين سيصادرون حرياتها وقرارها السيادي أيضاً.
إنّ الحديث يطول ويتجاوز المسطح المتاح للكتابة، لكن الذين قدر لهم المشاركة والحضور في دافوس، يعلمون جيداً أن الغني الحقيقي والثراء المتقدم إنما هو كائن وقائم في العقول، لا في الجيوب، وإلا فكيف لقرية صغيرة واقعة في أجواء من الثلج أن تصبح قبلة للعالم، في حين عالمنا العربي بوديانه وسهوله، ببحاره وشطآنه، بمناخه البديع وشموسه الرائعة، وبكل إنجازاته ومعجزاته الجغرافية، يعجز عن أن يكون له تجربته الخاصة المماثلة، أنها القدرة على الابتكار، وهذا هو اقتصاد الابتكار الذي يجب أن يبحث العرب الطريق إليه حثيثاً. دول أوروبا الباردة غير النفطية تنتج 15 تريليون دولار في العام، في حين عالمنا العربي النفطي بكل كنوزه لا يتجاوز 3 تريليونات دولار، فهل حان الوقت للتساؤل أين الخطأ الذهني، وما الذي أبدع فيه رجالات دافوس وأخفقنا فيه؟
خلاصة الكلام: لا يمكن تحميل منتدى دافوس كل أوزار العالم، فهو في النهاية تجمع نقاشي لعلية القوم من أهل البزنس والسياسة، ولا يمكن إنكار أنه يوفر ساحة حوار غير رسمية لموضوعات شائكة، ربما يتعذر تداولها عبر الطرق الرسمية، كما أنه يتيح فرصا لعقد مقابلات بين أطراف ربما لا تتمكن من أن تلتقي رسميا. إنني أسمع بشخصيات ذات وزن من أهل الفكر الاقتصادي يرفضون الذهاب إلى المنتدى، ويعتبرونه مهرجاناً يضيع الوقت، بينما يشكل "الحج إلى المنتدى" غراما عند أطراف أخرى من أهل السياسة والأعمال، تشعر بذاتها فيه بين الأسماء الرنانة، كما أن البعض ينجح على هامش المنتدى في إبرام صفقات ذات وزن.
*كاتب صحفي من المغرب