"الدّخلة" هي في الأساس كلمة من الحقل الرياضي في جانبه الجماهيري الإحتفالي و هي تلك التعبيرة الفنية التي تقوم بها جماهير الملاعب عند دخول لاعبي كرة القدم الى الميدان ،في تونس تعرف تلك الظاهرة حضورًا كثيفًا في الملاعب الرياضيّة و تمثّل مادة إعلاميّة هامة بذاتها على هامش المباريات الكبرى خاصة "دربي العاصمة" بين الترجي الرياضي و النادي الإفريقي .
حكايات "الدّاخلة" عند مجموعات المشجّعين في الفرق الرياضيّة التونسيّة لا تنتهي تفاصيلها من التحضيرات التي قد تدوم لأكثر من شهر قبل المباراة إلى تحضيرها في الملعب وصولا الى عرضها لحظة المباراة ،تحتاج تلك العمليّة وقتًا و مصاريفًا و ناس شبه متفرّغين و الذين يكونون عادة من خرّيجي معاهد الفنون الجميلة ،و تحتاج الى مخيال فنّي رحب قادر على ابلاغ رسالة رياضيّة بطريقة و تعبيرة فنيّة خاصة ،لذلك تجد كلّ طرف يحرص على ابتكار الجديد و ما لم يأتي به الطّرف الآخر .
لا تخلو "الدّخلة" الرياضيّة أحيانا من شعارات غير لائقة و محتوى متجاوز لأخلاقيات الرياضة و رسالتها النبيلة ،و أحيانا تحتمل رسائل ذات محتوى عنيف و غير رياضي أو أحيانا حتّى رسائل سياسية ،لذلك تتكثّف الرّقابة في الملاعب قبل المباريات لتفادي كل ما من شأنه أن يخلّ بمبادئ بالرياضة و يضرّ بالمشاهد و الأخلاق و الناشئة ،لذلك كنّا نسمع دائما عن "دخلة" تمّ منعها و أحيانا تمنع الرقابة جزءًا منها و تحجز الكثير من شعارات و رسومها .
ظاهرة "الدّخلة" في تونس لم تتوقّف عند حدود الملاعب ،بل غادرت عالم الساحرة المستديرة لتدخل الى المعاهد و المدارس الثانوية حيث صارت جانبًا أساسيًا في إحتفالات ما يسمّى بــ"الباك سبور" في تونس ،،و "الباك سبور" هو اليوم الذي يجري فيه تلاميذ الباكالوريا في تونس إختبار مادة الرياضة أو التربية البدنيّة .
و هذا الإمتحان يجري عادة خارج المعهد و خارج الرّوتين العادي لأي إمتحان حيث يتجمّع التلاميذ في ملعب من الملاعب و يخضعون للإختبار من قبل الأساتذة ،و نظرا للفضاء المفتوح و الجو الجماهيري فإنّ الجانب الإحتفالي يفرض نفسه في هذه المناسبة التي يبحث فيها التلاميذ عن الخروج من ضغط الدّراسة و الفصل و المعهد و ضغط التحضير للإمتحان النهائي الكبيرو الأهم في مسيرة أي طالب تونسي و الذي يفصل عنه بعد "الباك سبور" شهر واحد .
كانت الإحتفالات في السّنوات الأولى لا تتجاوز الرّقص و الموسيقى و الغناء و توزيع الحلويات حيث يحضر أهل و أصدقاء التلميذ للتشجيع و أخذ الصّور للذّكرى ،لكن مع الوقت و مع الإنفتاح الكبير لعالم الصّورة و مع انتشار وسائل التواصل الإجتماعي بما توفّره من فرصة للإطلاع و المنافسة الدّائمة خاصة بين الشباب في كل ما هو جديد و مبتكر و مع ظهور "الدّخلة" في الملاعب التونسية صارت إحتفالات "الباك سبور" تأخذ بعدًا آخر حتّى صارت "الدّخلة" جزءًا رئيسيا منها و لا تستقيم في ذهن التلاميذ بدونها .
رسائل سياسية و شعارات واعية و أخرى خطيرة :
تتمّ "الدّخلة" قبل الخروج الى الإمتحان داخل ساحة المعهد ،و تتمثّل العمليّة في تحضير صورة كبيرة جدًّا تصل أحيانًا الى 400 متر مربع أو أكثر ،و تحمل هذه الصّورة أو الشعار أو المقولة رسالة ما تعكس أفكار القائمين بها من التلاميذ أو من يوجّههم أو حتّى يموّلهم .
قد تنوّعت منذ "ثورة 14 يناير" شعارات "الدّخلة" و تعبيراتها ،فمنها من حمل شعارات سياسيّة معارضة أو مساندة لأحد الحكومات التي مرّت بالبلاد ،أو صورًا لشخصيات سياسيّة أو رياضيّة أو حتّى دينيّة .
ففي مدينة قابس مثلاً في الحنوب الشّرقي التّونسي و هي مدينة يشتكي أهلها من التلوّث بفعل وجود معمل للكيميائيات بالجهة أثّر على الصحّة و الطبيعة و المناخ بها ،كانت "دخلة الباك السبور" في أحد معاهد المدينة في هذا الإطار الإحتجاجي على الوضع البيئي و الصحّي في مدينتهم ،و كان الرّسم الذي أنجزه تلاميذ أحد المعاهد تعبيرة واعية عن حجم الخطر البيئي المحدق و رسالة حضارية جميلة للقائمين على البلاد بأن المدينة تختنق و يلزمها كمامات تنقّي الهواء كما عبّرت أحد الصّور .
كثير من "دخلات الباك سبور" حملت رسائل ذات وعي بقضايا الأمّة العربيّة و على رأسها قضيّة فلسطين ،فصور شهداء الإنتفاضة و القمع الإسرائيلي و صور القدس و قادة المقاومة كانت حاضرة في كثير من المعاهد التّونسيّة ،و هي دليل على وعي قطاع كبير من التلاميذ بالهموم و القضايا الكبرى ذات البعد القومي و الدّولي رغم كلّ ما يقال عن هذه الأجيال و ما تتّهم به من ميوعة و تشتت و غياب البوصلة و الوعي و ربّما يوغل البعض في التّوصيف الى حدّ القول بأنّ الأجيال العربية الصاعدة منبتة و لا علاقة لها بواقعها و جذورها و تاريخها و قد جرفها تيّار العولمة الى أفكار و عقليات أخرى .
كما كانت السياسة حاضرة بقوّة في "الدّخلة" فصور ساخرة من الحكومة و رئيس الجّمهورية و القادة السياسيين و رؤساء الأحزاب ،فكثير من الصّور كانت متهكّمة على الطّبقة السياسية و خطاباتها و مواقفها و قد نال المرزوقي رئيس الجمهوريّة نفسه نصيبا من هذه السّخريّة و التهكّم كذلك راشد الغنّوشي رئيس حركة النّهضة و الباجي قايد السّبسي رئيس حركة نداء تونس ،و الصّور في معظمها تتناول حالة الشباب في المشهد السياسي الذي تسيطر عليه قيادات كبيرة السّن حيث يبدو التلاميذ كأنّهم يطالبون بأن يأخذ الشباب حظّه في المشهد السياسي خاصة و أنّه كان السبب الرئيسي في اندلاع الثّورة التي أوصلت هؤولاء "الشيوخ" الى الحكم .
السياسة في تونس زحفت على كلّ شي فبعد الإعلام و الإقتصاد و الثقافة و حتّى الرياضة ،دخلت أيضًا الى ساحات المعاهد و صارت مادة تتناول النقاشات التلمذية و تعكسها تعبيراتهم الفنية و رسوهم الحائطية و كتاباتهم على مواقع التواصل الإجتماعي ،و لم تتوقّف هناك حتّى وصلت الى "الدّخلة" ففي أحد معاهد جربة رفع التّلاميذ صورة الزّعيم الوطني صالح بن يوسف أصيل الجزيرة الصغيرة ،و صالح بن يوسف هو رفيق درب الزّعيم الحبيب بورقيبة و عدّوه اللّدود في ما بعد و الذي وقع اغتياله في فرانكفورت على خلفية صراع سياسي حاد بينه و بين بورقيبة في أحد أكبر الفتن السياسية التي عرفتها تونس في تاريخها المعاصر و التي لم تشفى من آثارها بعد ،فقد رفع التلاميذ صورة للزعيم صالح بن يوسف بما يكشف عن وعي سياسي و تاريخي و موقف واضح كذلك –يغذّيه الإنتماء الجهوي ربّما- من قصية سياسية و فكريّة عميقة في البلاد ،و هو الأمر نفسه الذي حصل مع بورقيبة في كثير من المعاهد الأخرى خاصة في ساحل التونسي من حيث ينحدر "المجاهد الأكبر" .
القيادي اليساري المعارض و الزّعيم السياسي شُكري بالعيد الذي تمّ إغتياله في فبراير من العام الماضي كان حاضرًا كذلك في أحد المعاهد بــ"دخلة" مهيبة حيث حي تلاميذ النشيد الرّسمي التونسي على صورة كبيرة للقيادي الوطني البارز و رفعوا له صورة كبيرة باللونين الأبيض و الأسود مكتوبا تحتها بالفرنسية "لا للإرهاب" خاصة و أن المعهد يوجد في منطقة "وادي مليز" من محافظة جندوبة شمال غربي البلاد و هي المنطقة التي ينحدر منها كمال القضقاضي المتهم الرئيسي في مقتل الزّعيم السياسي شُكري بالعيد الناطق الرّسمي باسم حزب الوطنيين الدّيمقراطيين الموحّد و أحد مؤسسي الفصيل اليساري الكبير في تونس "الجبهة الشعبية" .
و في المقابل رُصدت كذلك العديد من الصّور التي وصفها البعض بالخطيرة كرفع أعلام القاعدة و صور بن لادن و قيادات لأنصار الشّريعة المحظور أو شعارات ذات دلالات "جهاديّة" و أخرى عنيفة و لا أخلاقيّة و هو ما يحذّر منه البعض خاصة و أنّ هذه الأفكار قادرة على الانتشار في وعي التلاميذ إذا لم تتوفّر الإحاطة و الإنتباه اللاّزم ،كما رفعت بعض الشعارات ذات المحتوى "الخطير" كصور هتلر الزّعيم الألماني النازي الشّهير ،إضافة الى إستعمال الشّماريخ بكثافة و هي أشياء قد تكون خطيرة على صحّة و سلامة التلاميذ خاصة في أجواء احتفالية منفلتة يصعب السيطرة عليها و توجيهها .
كما حضرت الكثير من الشعارات الرياضيّة كذلك و التي تعكس الإنتماء الرياضي للتلاميذ و فرقهم المفضلة خاصة ما يُسمّى في تونس بالأربعة الكبار :النّادي اللإفريقي ،الترجي الرياضي ،النّجم السّاحلي ،النّادي الصفاقسي ،،كما حضرت كذلك الكثير من صور الفنانين و المشاهير من تونس و من العالم ،فمثلاً رفع تلاميذ أحد المدارس صورا لفنان الرّاب التونسي الصّاعد "كافون" صاحب الأغنية الأكثر إنتشارا في تونس "حوماني" ،و هو فنان صاحب انتشار واسع في صفوف الشباب و حتى الكهول نظرا لأسلوبه الفنّي الفريد و أغانيها ذات المحتوى المتميّز و الصّادم و الشّجاع كما يصفها البعض ،حيث تناول في اغانيه كل ما هو "ممنوع" و "محرم" في المجتمع التونسي و رصد كل الظّواهر السّلبية بطريقة فنيّة متميّزة .
و تيقى هذه "الظّاهرة" الى الآن بعيدةً عن تناول علماء الإجتماع و الباحثين في هذا المجال رغم أنّها وصلت الى درجة كبيرة من الإنتشار الواسع و هو ما يطرح الكثير من الأسئلة عن سر غياب الدّراسات العلميّة ذات العلاقة التي من الممكن أن تساهم في تفكيك الظاهرة و تحليلها و مقاربة الذّهنية الجديدة للناشئة في تونس مما قد يسهّل كثيرا معالجة الكثير من الظّواهر المتفشية في الفضاء المدرسي و الشبابي عموما و تقديم حلولا ناجعة لها انطلاقا من دراسات علمية دقيقة .
هذا و يذكر أنّ وزارة التربية في تونس كانت قد اصدرت مذكرة داخلية منذ 24 مارس/آذار الماضي الى المندوبين الجهويين للتربية لحثهم على منع "دخلة الباك سبور". ودعت المذكرة المندوبين الجهويين للتربية الى عقد اجتماع باساتذة تلاميذ البكالوريا لحثهم على مزيد الاحاطة بالتلاميذ وتاطيرهم قصد تجنيبهم عواقب الاحداث والمظاهر الغريبة التي لها علاقة بامتحان البكالوريا.
كما دعت الوزارة الاولياء الى تحمل مسؤولياتهم في تاطير تلاميذهم خلال الاختبارات بجميع مراحلها ومرافقتهم عن كثب ودعوتهم الى التزام بقواعد السلوك المحترم. ودعت كذلك الى تذكير التلاميذ بوجوب التحلي بروح المسؤولية والمواطنة والحرص على انجاز اختبارات مادة التربية البدنية بسلام والابتعاد عن كل مظاهر الفوضى التي قد تؤدي الى حوادث مؤلمة وفق تعبيرها
هذا يذكر ان اختبارات التربية البدنية او ما يعرف بالباك سبور في تونس تتواصل الى غاية 3 ماي القادم و قد نشهد المزيد من الإبتكارات و "الدخلات" ذات محتويات أخرى .