في زمن التناقضات والعجائب الليبية، لم يعد المواطن الليبي يستغرب شيئاً مما يراه أو يسمعه، فالتغيير والتحريف والخروج عن المألوف أصبح يطول كل الأشياء من حوله، بما فيها القيم والأخلاق التي تربى مجتمعه عليها، هذه القيم والأخلاق التي أصبحت في مهب رياح الفتاوى الدينية الشاذة التي تحللها في مكان وتحرمها في مكان آخر تبعاً لأهواء وغايات مطلقيها. وأحب أن أشير هنا إلى أن أصحاب هذه الفتاوى الشاذة يتصرفون وفق أوامر مشغليهم، وأن ما يقومون به يجري في إطار حرب لتخريب العقل. وفي هذا السياق، فقد أفتى "فرحات العمامي" عضو لجنة الافتاء ببنغازي بتحريم مشاهدة مسلسل شط الحرية...! وأتساءل: من يجيز تحريم أو تحليل عرض مسلسل شط الحرية ! ومن الذي يقول أنه مناف للقيم الاجتماعية الليبية! أليس بمقدور المشاهدين إطلاق أحكام قيّمة؟ أليسوا هم الوحيدين الذين يقدّرون رقي أو ضحالة المسلسل؟ ما الذي يعنيه أن تحاكم قراءة جاهلية معطيات المسلسل... ؟! وما الذي يعنيه أن يتحدث العماء عن الضوء والنور، وأن يتحدث الجهل عن الدراما الفنية...؟ولماذا يحدث كل هذا؟! أهو الحرص على القيم؟! أم هو الدفاع عن السماء والقدرة الإلهية؟! وكلاهما ليسا بحاجة لذلك الحرص أو هذا الدفاع من جهلة لا يعرفون القراءة السليمة، ولا حتى فك الحروف ومعرفتها! فكيف لهم، ومن أين، أن يحسنوا قراءة المسلسل وإدراك أسراره!  

 القراءة الجاهلية التي لا تعرف من الأفعال سوى الظلم، ومن الرؤى سوى الشك والظن، ومن التوجهات سوى السوء، ومن الغايات سوى الطعن والاتهام، هي التي تقف وراء مثل هذه الفتاوى الشاذة، وإلا كيف نفهم تناسل هذه الفتاوى في ليبيا بين حين وآخر، وغاياتها إقفال بوابات العقل وسد دروبه، وإذلال الخيال، وتقييد الإبداع، والطعن في ذمم المبدعين والفنانين، والإساءة إلى أفعالهم النبيلة بكل وصف قبيح، واتهام شائن، والحجر على إبداعهم بوصفه سفاهة! وما يدعو للقرف والغثيان أنّ أمثال "العمامي" وقبله أبو الحسن محمد الزوي، والقائمة في ليبيا تطول، يرون أن الإسلام ما هو إلا دين شعائر ومناسك وطاعات لا يحفل إلا بالصلاة والصوم والحج والزكاة، ويرفض بشدة أية دعوة للترويج عن النفوس، ويعتبر ذلك من المعاصي التي حرمها الله على عباده، ولذلك فهو وأمثاله من شيوخ السلفية، يدعون لمقاطعة البرامج والفقرات الترويحية في التليفزيون، ويصدرون فتاوى تمنع جمهورهم من متابعة الأعمال الدرامية وبرامج المنوعات 

 ومما يزيد الطين بلة أن نرى بعضاً من دعاة وشيوخ السلفية في ليبيا، يروجون لهذه الأفكار، فهم يريدون للمواطن الليبي أن يعيش في حالة من الاكتئاب والعبوس الدائم، ويتركون لغيرهم الفرح والسرور والسعادة، فهذا في رأيهم هو الطريق إلى الجنة، إلا أنه باستعراض جوهر العقيدة الإسلامية سوف نجد أن هناك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والممارسات العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه من بعده تحض على الترويح، وتعتبره ضرورة، بل وفريضة لسلامة النفس والبدن، ودافعاً للخلق والابتكار، وحافزاً لعلاقات إنسانية وأسرية سوية، كما أنه ضرورة للعمل والإنتاج 

 وإذا كان الحق تبارك وتعالى قد أكد على ذلك في سورة يونس حين قال ''قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون''. فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حث المسلمين على الترويح عن النفس في قوله صلى الله عليه وسلم (روّحوا عن القلوب ساعة وساعة، فإن القلوب إذا كلّت عميت)، وهنا يحسم دستور الإسلام هذه القضية في قوله عز وجل في سورة الأعراف ''قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق''. والترويح في اللغة يعني الاستراحة والرحمة، والسرور بعد الكرب، والتقاط الأنفاس بعد الإعياء، وهو مطلب جوهري لأن الإنسان لا يمكنه أن يعمل ويستمر على حالة الجد دون أن يروح عن نفسه بشيء من اللهو المباح، إنها دعوة لحياة أفضل، فالترويح يحيي الإرادة في النفوس البشرية، ويطرح عن جسد الإنسان وعن عقله ونفسه ما علق بها من أثقال وأدران، بما يعود عليه بالمنفعة العاجلة والآجلة. وقد اهتم الإسلام بهذا الجانب من الحياة ليتم وضعه في إطاره الصحيح، فأباح كل ما يدعم الشخصية الإنسانية من جميع جوانبها، ولهذا اهتم بالفنون والآداب، كالشعر والغناء والموسيقى، ولم ينه إلا عن الألوان الضارة كالغزل الفاضح الذي نراه على كثير من الفضائيات الآن، كما نهى الإسلام عن العلاقات غير الشرعية وحث على التوازن والملاءمة ما بين احتياجات الإنسان ورغباته، فهو لا يعارض الترويح ولا يحرمه، ولكنه يدعو إليه، ويعده أحياناً من الأمور التي يتقرب بها العبد إلى ربه، ويأتي ذلك مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ''إن أحب الأعمال إلى الله بعد الفرائض إدخال السرور على قلب المسلم''. وما أكثر الوقائع في حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) التي تؤكد رغبته في الترويح مستخدماً في ذلك العديد من الأساليب حتى كان يملأ بيته فرحاً وسروراً.  

 وإذا كان الترويح يأتي في مقدمة البرامج والمسلسلات العربية والليبية، التي يجب أن تضطلع بها وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، فلا يستطيع أحد أن يسلبها هذا الحق، ويرفض الحجج الواهية التي يستند إليها المتزمتون في مهاجمة النشاط الترويحي، وبهذا وضع الإسلام هذا القالب الإعلامي في إطاره الشرعي الصحيح، فكانت نظرته إليه نظرة واقعية حتى لا يعطل فطرة الإنسان، أو يدمر ميوله أو يدفن مواهبه حتى لا يعيش الإنسان المسلم حياة عابثة لا ترى في وجوه أفراده إلا التبرم والاكتئاب، فهذا مقطب الوجه، وذاك مكشر عن أنيابه، وتلك عابسة حزينة والجميع هكذا في وجوم قاتل، فهل هذا هو المجتمع المسلم الذي يريده الله لنا؟ والدين الإسلامي بما يحمل من فضائل وأخلاقيات يمنع كل ما يعطل فطرة الإنسان أو يدمر ميوله أو يدفن مواهبه، أو يهدم السلوك الإنساني الفاضل، ولهذا نجده يؤكد على إشباع الرغبات والميول ويلي الاحتياجات البشرية بما يؤدي إلى خلل في وظائفه العضوية، ومن ثم فلا يجوز أن يحرم الإنسان من حق أعطاه الله له كما نرى لدى بعض الجماعات السلفية المتزمتة أو الفضائيات المتخلفة التي تنكر على الإنسان هذا الحق جملة وتفصيلاً، وتعتبره من ترف الحياة الذي لا لزوم له لأنه يشغل الإنسان عن عبادة الله والتفرغ لطاعته. وقد أكدت الدراسات النفسية والاجتماعية أن الناس الذين يعملون وهم مجبرون على العمل أقل إنتاجاً من هؤلاء الذين يعملون وهم سعداء.  

 وهذا يعني أن الترفيه يعد مطلباً إنسانياً، ولهذا فنحن هنا نؤكد على شرعيته باعتباره وقوداً يدفع عجلة العمل نحو إثراء الحياة، ويزيل ما يعلق بالنفس البشرية من الهموم والأحزان، فهو كالماء والهواء لا يستطيع الإنسان أن يعيش بدونه، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، بدونه تمل النفس ويسأم القلب وتتعطل المواهب. وهذا يؤكد على الدور الحيوي الذي تلعبه وسائل الإعلام في حقل الترويح لأن الوسائل التي تتغاضى عن هذا الجانب باعتباره ملهاة لا مبرر لها ومضيقة للوقت والجهد والمال تكون قد حكمت على نفسها بالموت، إلا أنه يجب أن ينطلق الترويح الإعلامي من منطلق قيمي وديني ولا يتناقض مع مرجعية الأمة، مع تحقيق التوازن والملاءمة بين المطلبين دون إفراط أو تفريط، وبهذا تستطيع المواد الترفيهية في وسائل الإعلام أن تسهم بفاعلية في معالجة الأمراض الاجتماعية، وتحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية في المجتمع. 

 خلاصة الكلام: أما آن الأوان للجم الفتاوى الشاذة التي تطلُّ برأسها بين حين وآخر في بلد عمر المختار؟! أما آن الآوان أن تتحرر العقول، والبيوت، والمدارس، والأفكار، والتوجهات من ظلامية الجهل والعماء التي تنطق، للأسف، باسم السماء! أما آن لهؤلاء المفتين أن يعوا بأن الجهل لا يلد سوى الظلامية، وأن العماء لا يلد سوى العماءفالفتوى أمانة ومسؤولية لأنها توقيع عن رب العالمين، فهل يدرك المفتون في ليبيا اليوم هذا أم أنهم أصبحوا أصحاب دكاكين للفتوى يبيعون دينهم بدنياهم أو بدنيا غيرهم ولهؤلاء نقول، بالله عليكم... ارحموا عقول الليبيين ولا تستهينوا بعقولهمفلا أحد منكم يمتلك ولن يمتلك الحقيقة!… فالليبيون أيضا يقرأون إن كنتم لا تقرأون! 

 كاتب صحافي من المغرب.