عن تشابكات واقع الحريات و حقوق الإنسان في تونس بين الموجود و المنشود, وعن الأبواب الخلفية, أو بالأحرى الأبواب المخفية, لمراكز الاحتفاظ والسجون في بلاده التي تخطو خطواتها العسيرة و المتعثرة نوعا ما, ولكنها واثقة, نحو الديمقراطية,  تحدث عبد الستار بن موسى, رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان, و عميد المحامين التونسيين السابق, والحائز على جائزة نوبل للسلام ضمن الرباعي الراعي للحوار التونسي بتاريخ 9 أكتوبر 2015, تثمينا لجهوده في تجنيب البلاد مآلات الانزلاق نحو مطبات العنف والتصادم بين العلمانيين و الإسلاميين عقب اغتيال المعارض اليساري والنائب بالمجلس التأسيسي سابقا محمد البراهمي في 25 جويلية/ يوليو 2013, في لقاء مع "بوابة إفريقيا الإخبارية", بمقر الرابطة بالعاصمة التونسية, اليوم الأربعاء 27 أفريل/نيسان 2016.

رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان تطرق كذلك في حواره مع "بوابة إفريقيا الإخبارية", وهو لقاء أردناه, حصرا، خاصا بواقع و آفاق الحريات وحقوق الإنسان في بلد "الديمقراطية الناشئة" كما يسميه البعض, إلى الجدل المتنامي في تونس حول تواصل التعذيب و الانتهاكات ضد المساجين في مراكز الاحتفاظ و السجون, إضافة إلى وجود محاولات للشد إلى الوراء عبر الدفع الممنهج, وفق مراقبين, نحو التضييق على الحريات و لجم الأصوات.

 عديد الجوانب الإشكالية الأخرى التي تهم الملفات الحقوقية والاجتماعية الساخنة في تونس، تجدون الإجابة عنها في الحوار التالي:

جدل حول توجس الرأي العام التونسي من عود ممنهج لقمع الحريات ؟

نعم يوجد قمع للحريات في تونس, هذا الأمر واضح, و الدليل هو المعالجة الأمنية للمسيرات و التحركات السلمية التي حدثت في الكاف (شمال غرب), و في قرقنة (جنوب) خلال المسيرتين المذكورتين وقع استعمال مفرط للقوة من طرف وحدات الأمن.  بطبيعة الحال نحن نعارض العنف مهما كان مأتاه, سواء من الأمنيين أو من المحتجين ضد الأمنيين. الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان مع الاحتجاجات الاجتماعية السلمية, و ترفض استخدام العنف من طرف أي طرف كان.

 الخشية من عودة القمع تظل دائما موجودة في تونس, و ذلك نظرا إلى وجود عقلية أو ثقافة أمنية تنزع نحو استعمال العنف, هذا الأمر مرتبط بالعقلية الأمنية التونسية. المنظومة الأمنية لم يتم إصلاحها بعد, و هذه المنظومة تجنح إلى استخدام القوة.

لكن لماذا لا تندد الرابطة, و غيرها من المنظمات الحقوقية بالعنف الممارس ضد قوات الأمن من طرف المحتجين, على غرار ما حدث في قرقنة مؤخرا؟

نحن ندد بالعنف مهما كان مأتاه, و طبعا ندد بالعنف الممارس ضد قوات الأمن. نحن نساند المطالب الاجتماعية السلمية و نعارض كل أشكال العنف, و مع ذلك ها نحن نجد أنفسنا منذ فترة ممنوعين من الدخول إلى مقراتنا بسبب الاعتصام الذي ينفذه المفروزون أمنيا أمام مقر الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان, و الذي ما زال قائما إلى هذا الحين, الأمر الذي يؤثر سلبا على أعمالنا.

هل تحاول الحكومة التونسية التضييق على الحريات للتغطية على فشلها في حلحلة الأزمة الاجتماعية الحادة التي من أبرز سماتها ارتفاع مؤشر البطالة في صفوف الشباب المتخرج من الجامعات؟

الحكومات المتتالية في تونس فشلت في حلحلة المشكلات الاجتماعية, و خاصة بالنسبة لأزمة البطالة. نحن كنا قد طالبنا بفتح حوار جدي مع ممثلين عن المعتصمين، و الاستماع إلى مشاكلهم, أي  تفعيل حوار حقيقي مع الشباب في مختلف الجهات يكون تحت إشراف الوزراء المعنيين, و ليس تحت إشراف الولاة (المحافظين), و ذلك لضبط استراتيجية تشغيل متكاملة تتضمن إجراءات خاصة بكل جهة للتخفيف من عبء البطالة, لا سيما و أن الشباب هو الذي أوقد جذوة الحراك الثوري في 2011, إلا أن ما حصل بعد ذلك هو أنه يجد نفسه اليوم مهمشا و منسيا لأن الحكومات المتتالية عجزت عن تلبية المطالب التي نادى بها.

 هل ترون أن قرار تنظيم مؤتمر وطني للتشغيل يبقى غير عملي لإنهاء الأزمة؟

مؤتمر التشغيل خطوة منقوصة, علما و أننا شاركنا فيه, و أكدنا خلاله أنه لم يتم الإعداد لهذا المؤتمر بصفة محكمة. الحوار الوطني من أجل التشغيل ليس مجرد الاستماع إلى مشاكل المعطلين عن العمل, بل يجب أن يتمخض  الحوار عن مخرجات قابلة للتنفيذ. لحلحلة أزمة البطالة في تونس لا بد من فتح حوار جدي مع الشباب لإنتاج و إيجاد الحلول العملية للمعضلة المذكورة. إنهاء أزمة البطالة و تشغيل الشباب لا يكونان عبر الية الحوار من أجل الحوار, بل لا بد أن يفرزا خارطة طريق واضحة المعالم و قابلة للتجسيد في الواقع, على غرار ما تم خلال الحوار الوطني في 2013.

الواجب إيجاد الحلول العملية لأزمة البطالة التي يعيشها الشباب التونسي لأن الشاب الذي يجد نفسه معطلا عن العمل يصبح لقمة سائغة للإرهاب و الهجرة غير الشرعية.

و ماذا عن واقع حقوق الانسان في مراكز الاحتفاظ و السجون التونسية, أو بمعنى أدق, هل صحيح أن مؤشر الانتهاكات و التعذيب يسجل ارتفاعا في هذه الأماكن؟

التعذيب متواصل في أماكن الاحتفاظ, لكنه غير ممنهج.  ثقافة التعذيب في تونس كانت و ما تزال موجودة, و هوما يستوجب ضرورة إصلاح المنظومة الأمنية و انتهاج الوسائل الحديثة لكشف الجرائم و إثبات التهم. نحن لم نعد نعيش في عهد استعمال العنف كوسيلة للاعتراف بالذنب المرتكب, علما و أن اقتلاع الاعترافات بالجرائم تحت التعذيب غير معترف به في القانون التونسي, و لا في القانون الدولي؟.

هل عاينتم حالات انتهاكات لا يرقى لها الشك داخل مراكز الاحتفاظ؟

نعم لاحظنا, و عاينا اثار التعذيب في بعض أماكن الاحتفاظ, على سبيل المثال في أحداث مليتة (قرقنة). الفرع الجهوي للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بصفاقس (جنوب) عاين حدوث انتهاكات في تلك الأحداث.

و هل  أن نفس الأمر يحدث داخل السجون؟

السجون تعيش ظروفا سيئة، و قد نجد داخلها سوء المعاملة و العنف اللفظي, و لكن وضعها أفضل من مراكز الاحتفاظ, و في الغالب لا توجد فيها انتهاكات أو تعذيب.

و في ما تتمثل الانتهاكات المسجلة داخل مراكز الاحتفاظ التونسية؟

يوجد الاعتداء بالعنف, على غرار الاعتداء باللكم, كما يقع استعمال الية "الخرطوم" و هي عبارة عن وعاء بلاستيكي فيه ماء ساخن يتم رشه على الموقوفين, هذا طبعا وفق رواية المتضررين, و كذلك حسب اثار التعنيف التي يحملونها عند المعاينة. القضاء التونسي أثبت في عدة حالات وجود التعذيب, كما قام بمحاكمة مرتكبيه, إلا أن الإفلات من العقاب مازال موجودا, و هو ما يمثل إشكالا كبيرا.

ماهي جغرافية توزع الانتهاكات داخل مراكز الاحتفاظ في بلدكم حسب الجنس و السن و الفئة الاجتماعية؟

كل الشرائح الاجتماعية موجودة. الاعتداء اللفظي و المادي موجود, إلا أنه موجه أساسا ضد الموقوفين في قضايا إرهابية. أما بالنسبة للانتهاكات المسجلة ضد النساء,  فيمكن القول إنها قليلة جدا.

و هل تؤيدون الدعوات المنادية بعدم تعذيب الإرهابيين, و هل يمكن أن يتمتع من حمل السلاح ضد أمن العباد و البلاد بالمحاكمة العادلة تحت مسميات حماية حقوق الإنسان؟

نحن لسنا ضد قتل الإرهابيين في عمليات أمنية ميدانية, و لكننا مع ضمان حق المحاكمة العادلة لكل متهم ألقي عليه القبض حيا, و ذلك مهما كانت الجريمة التي ارتكبها. يجب أن تتوفر للمتهم ظروف المحاكمة العادلة, كما يجب أن يتم احترام الذات البشرية في هذه المحاكمة وفق ما نص عليه الدستور و المواثيق الدولية,  كم من بريء تمت محاكمته على خلفية اعترافه بجريمة لم يرتكبها.

 السجون في تونس بين حدي سكين خطيرين هما: الاكتظاظ و الدمغجة, أي رابط واصل بين الظاهرتين و بين الإرهاب, في تقديركم؟

في السجون التونسية, غالبا ما لا يتم فصل بين الموقوفين و المحكومين, و أيضا بين المساجين المبتدئين و المساجين الخطيرين, مما يؤثر على نسبة العود, فكم  من موقوف حل بالسجن لأول مرة من أجل جريمة بسيطة أصبح محترفا في الإجرام بعد خروجه من السجن, و سرعان ما يعود إليه.  نسبة العود (عودة السجين إلى السجن بعد إطلاق سراحه في المرة الأولى) تضاهي 42 بالمائة من العدد الإجمالي للمساجين في تونس. أما عن الاكتظاظ, فأقول إنه لدينا في الوقت الحالي 23 ألف سجين, في حين أن عدد الأسرة لا يتعدى 16 ألف سرير, يمكنك أن تستنتجي واقع الحال.  

كذلك وجبت الإشارة إلى أن الاستقطاب داخل السجون كثيرا ما يحصل لمساجين الحق العام من قبل مساجين في قضايا الإرهاب الذين يعدونهم بالتوبة, ثم يقومون بغسل أدمغتهم, و كثيرا ما يصبح السجين المحترف في قضية حق عام إرهابيا بين عشية و ضحاها.

هل تمثل العقوبة البديلة إجراء قانوني و تشريعي عملي لا غنى عنه للتخلص من اكتظاظ السجون و تداعياته على الأمن القومي التونسي بناء على تنامي مؤشر استقطاب المساجين نحو منزلق الإرهاب؟

ظاهرة الاكتظاظ داخل سجوننا يمكن حلها بتنقيح النظام التشريعي. العقوبة البديلة غير مفعلة تماما في تونس. كذلك لا بد من الحد من فترة الإيقاف التحفظي الذي يصل إلى 14 شهرا, الأمر الذي يضخم نسبة المقيمين في السجون. أيضا لا بد من التخفيف من العقوبات السجينة المتعلقة بالجرائم البسيطة, و إنهاء العمل بالجبر بالسجن بالنسبة لجرائم عدم دفع الخطايا المالية. أمر اخر هام جدا كذلك من أجل التخفيف من اكتظاظ السجون التونسية يتمثل في ضرورة تطوير مؤسسة قاضي تنفيذ العقوبات و إعطائه صلاحيات أكثر في السراح الشرطي و تنقيح منظومة العفو الخاص.

لإنهاء معضلة الاكتظاظ داخل سجوننا وجب أيضا تفعيل العقوبة البديلة في الإجراءات القانونية من خلال عدم إكساء الأحكام الجزائية الغيابية بالنفاذ العاجل إلا في الحالات الاستثنائية, و لا بد أيضا من إصلاح مؤسسة التحقيق و دائرة الاتهام لأن من تصدر في شأنه بطاقة إيداع بالسجن يصعب إخراجه بعد ذلك.

شرعت الحكومة التونسية مؤخرا في تفعيل استحقاق "مسرح و سينما و كتاب لكل سجين" بهدف فك العزلة عن المساجين، ألا ترون أن هذا التوجه، و إن رشح بهدف نبيل ربما, قد يساهم في تزايد الجريمة و ارتفاع إمكانيات العود؟

السجين في حاجة إلى الثقافة لأنها تشكل حصنا ضد العود، كما تمكنه من الترفيه و تنمية قدراته و مواهبه.  الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان قامت منذ فترة بإبرام شراكة مع منظمة أجنبية فرنسية (عيون السماء), لإعداد برامج ترفيهية و أفلام قصيرة للمساجين داخل مراكز الإصلاح.