بعد تراجع منسوب ظهور حركة النهضة الإسلامية على الساحة التونسيّة، وبعد تحرك قطاعات واسعة من المؤسسات والأحزاب الليبية، في اتّجاه التخلص من الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة، وبعد انتخاب رئيس جديد لمصر، تكونت سلة جديدة من المعطيات، نعيد تركيبها، في بحث عن قراءة الباحث الرصينة لجملة هذه المعطيات. وهو ما دفع بـ”العرب” للقاء الباحثة في التحليل النفسي، رجاء بن سلامة، الّتي أكّدت أنّ ما يحدث الآن للإسلام السياسي في الوطن العربي، هو “عَرَض مرضيٌّ من أعراض الحداثة”.

بدأ حوارنا مع الباحثة رجاء بن سلامة، بالسؤال عن التراجع الملحوظ للظهور السياسي لحركة النهضة الإسلامية التونسية، الذي كان مكثّفا قبل التوافق حول إجبارها على الخروج من السلطة وتعويضها بحكومة “تكنوقراط”، نتيجة الانهيار الأمني والتهديدات والاغتيالات التي طالت رموزا سياسية في البلاد.

وقد أكدت بن سلامة أنّ هذا التراجع “بدأ فعلا قبل صائفة 2013، أي قبيل الأحداث المصرية، لكن نسق التهاوي تسارع بعد سقوط الإخوان في مصر”.

وقد لمّحت الدكتورة بن سلامة إلى أنّ تراجع النهضة لم يكن نتيجة الوضع الإقليمي والدولي الذي تنبّه إلى خطر الإخوان بعد سنة من صعودهم إلى دفة السلطة فحسب، بل إن معطيات داخلية تونسية دفعت بتغيير عميق داخل الديناميكية السياسية التونسية.

“فبعد الانتخابات سارعت النهضة إلى طرح مشروعها الإسلاموي الخاص بها، وعرضه للنقاش في المجلس التأسيسي، وخاصة تعويض استحقاق المساواة بين الرجل والمرأة بالتكامل بينهما، وطرح المجلس الإسلامي الأعلى، والتّضييق على حرية التّعبير بدعوى حماية المقدّسات، ثمّ مشروع إعادة قانون الأوقاف ..إلخ، كل ذلك دفع بقطاع واسع من المجتمع المدني إلى التصدي لهذا المشروع الثيوقراطي، وكبح جماح النهضة وتنبيهها إلى وجود قوى ضغط قوية في تونس قادرة على الحد من الأريحية الانتخابية التي ربحتها الحركة في الجولة الأولى”.

ثم تربط رجاء بن سلامة العامل الداخلي التونسي الذي أثبت طبيعة مغايرة لطبيعة المشروع الأيدلولوجي الإسلامي الذي تطرحه النهضة بالسياق الإقليمي، قائلة “إنّ الأحداث المصريّة المتمثلة في إسقاط الإخوان، مثلت نقلة نوعيّة في موازين القوى المرتبطة بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين وحلفائه.

فقبلت النهضة التّخلي عن الحكم، لكنّها عملت قبل ذلك على ضمان مصالحها، وحرصت على عدم محاكمة قياداتها، وعلى أن تكون الحكومة الحاليّة غير معادية لها”.

انقلاب مرسي لا السيسي

وفي سياق قراءة الوضع المصري، فقد دفعتنا حيرة بعض المتابعين للشأن العربي المتعلقة بسبل إيقاف الأخطار التي تمثلها ظاهرة الإسلام السياسي (خاصة تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد) إلى التساؤل عن مدى نجاعة أسلوب “التدخل بقوة” لوقف هذا الخطر، وهل أنها الطريقة الوحيدة للنجاح في هذه المهمة التاريخية.

وقد كانت إجابة الباحثة متمحورة حول أسباب الثورة ضد الإخوان لفهم سياق تدخل الجيش بعد ذلك، قائلة إنّ “إخوان مصر ارتكبوا أخطاء أكبر بكثير من نهضويّي تونس، لأنّ نهضويي تونس كانوا يتصرّفون تحت مراقبة المجتمع المدني، وكانوا حذرين. فالرئيس الأسبق مرسي قام هو نفسه بانقلاب على الديمقراطيّة بإعلانه الدّستوري.

ودفع نحو تحريك الإخوان بكل ما للحركة من زخم فاشي للضغط على المبدعين والإعلاميين والناس. وبذلك لم يقبل المصريون بهذا التمشي الفاشي، ولذلك كان وراء الجيش دفع شعبي يجعل مفهوم الانقلاب على الشرعية غير منطبق على الحالة المصرية، إن اعتبرنا أن الشرعية مصدرها الشعب. ولا أعتقد أنّ تدخل الجيش سيؤدي بمصر إلى إقامة نظام مستبد وفاسد كما في السابق”.

الإسلام السياسي بناء خاو

 

عدنا مع المحللة النفسية رجاء بن سلامة إلى مسألة “محاربة غول الظلام”، كما قال المفكر جورج طرابيشي، والأفق الفكرية لهضم الإسلام السياسي داخل الجسد العربي وتجاوزه نحو التنوير والحداثة، لتؤكد بن سلامة أولا أن “الإسلام السياسي عرض مرضي من أعراض الحداثة”.

وفي تشخيصها لهذا المرض، أوضحت أنه “ناتج عن عدم قبول الوضع الجديد للدين في العصر الحديث”. فالدين (أيا كان) لا يمكن أن يكون منظومة شاملة لكل مجالات الحياة العامة والخاصة، وهذا ما أدى إلى تأجيج الخطاب المتأسلم المندفع نحو خلق معارك وهمية بين الإنسان ومحيطه عبر الدين. هذا الدين الذي “لا يمكن أن يكون أساسا للشرعية السياسية، لأن الشرعية مستمدة من إرادة الشعب لا من الدين في الديمقراطية”.

وحسب رأي الباحثة، فإنه لا يوجد إسلام سياسي قادر على الانسجام مع الديمقراطية “بل يوجد إسلاميون قادرون على قطع شوط نحو الديمقراطيّة”، في دعوة للمراجعة العميقة لأفكارهم، “وهذا الشّوط لا يتم قطعه إلا بتقديم تنازلات”.

أما عن الإصلاح الديني فتؤكد محاورتنا أنه فعل ثقافي تنويري يمكن أن يساهم في جعل المؤمن يقبل بالمنزلة الجديدة للدّين، ويقبل بالتّعدّديّة ويخرج من عقليّة “الفرقة النّاجية”.

إسلاميو ليبيا هم من يجهض الثورة

 

أكدت الباحثة رجاء بن سلامة في معرض حديثها عن “معركة بناء الدولة الليبية بعد 17 فبراير” أنّ الوضع اللّيبي مغاير لما يحصل في تونس ومصر. إذ لم تتوقف في البلدين الأخيرين ـ إلى حدّ ماـ العملية السياسية، ولم يتوقّف كذلك عمل المؤسسات أثناء “خوض ملحمة محاربة الإرهاب”، لكن بالمقابل فقد مثلت ليبيا حاضنة مناسبة للجماعات المتشددة الإرهابية، نظرا لانهيار الدولة، الحركات الإسلاموية، للاستفادة من غياب القانون واستغلال مساحات وثروات هائلة لتنمية إرهابهم.

وقد أكدت بن سلامة أن المناخ الأمثل لنمو الإرهاب هو غياب مؤسسات الردع الرسمية، “ولعل العديد من المراقبين يتفهمون تدخل اللواء المتقاعد حفتر بتلك الطريقة لمحاربة الإرهاب، فتعطيل بناء جيش وطني جعل الليبيين يرتاحون للعملية العسكرية التي قادها حفتر”.

أما عن الهيئات الدولية التي أشارت رجاء بن سلامة إلى غيابها عن المشهد، فقد أكدت أن “هناك تقصيرا من الدول الكبرى في مساعدة الليبيّين على نزع السّلاح وبناء الدّولة”.

وأضافت: “مأساتنا أنّ هيئة الأمم المتّحدة ضعيفة وغير قادرة على حماية المدنيّين ومساعدة البلدان التي تعيش وضعا خطيرا”.

----

رجاء بن سلامة*باحثة وكاتبة تونسية من مواليد 1968

* تحصلت على الأستاذية في اللغة والآداب والحضارة العربية سنة 1985

*شهادة التبريز في الاختصاص من كلية الآداب والعلوم الإنسانية سنة 1988

*درست التحليل النفسي في تونس وفرنسا

*عضو مؤسس لرابطة العقلانيين العرب

* تعمل رئيسة تحرير لمجلة الأوان

 

*نقلا عن العرب اللندنية