دخلنا محافظة القصرين قادمين من العاصمة تونس من بوابتها الشمالية ذات القوسين الكبيرين ،تعترضك دوريّة للشّرطة عند مدخل المدينة و تطلب الهويات و تفتّش الأمتعة ثمّ تتمنّى لك رحلة ممتعة ،هو قانون الوقاية من تسلّل العناصر الجهاديّة الى جبل الشعانبي الواقف كأعلى قّمة في البلاد على تخوم المدينة .
تقع مدينة القصرين في الوسط الغربي للبلاد التونسيّة على بعد 290 كلم من العاصمة تونس ،تقطع سيارة الأجرة هذه المسافة بين الأربع و خمس ساعات ،تمر بك عن الفحص و حاجب العيون و الشبيكة و سبيطلة المدينة التاريخيّة الرّائعة ،على الطّريق تأسرك المشاهد الطّبيعيّة الخلاّبة ،جبال خضراء داكنة و أودية و هضاب و سهول شاسعة تتراقص فيها سنابل القمح الطّويلة و ثمّة من بدأ الحصاد كما تلتقط بعينيك الرعاة منتشرين على طول الطّريق باغنامهم و قطعانهم تحت الشّمس و رؤوسهم في الكلأ الأخضر .
تعيش المدينة الهادئة الجميلة منذ عام بالضبط على إيقاع ما يعرف بـ"سلسلة أحداث الشعانبي" حيث بدأت بتفجير الألغام التي زرعها الإرهابيون في إبريل/نيسان من العام الماضي ،،تطوّرت الأحداث في الجبل المتاخم للمدينة حتّى وصلت ذروتها مع إعلان منطقة الشعانبي و جبال سمامة في الــ11 من إبريل/نيسان من هذا العام منطقة عسكريّة مغلقة ،حيث دخل الجيش الوطني التونسي في مواجهة بريّة و جويّة و عملية عسكريّة واسعة ضد الإرهابيين المتحصّيني بالجبل الملاصق للحدود الجزائرية و المفتوح على الجانب الجزائري الآخر حيث تستعمله ذات الجماعات هناك أيضًا لأغراض "جهاديّة" .
النّاس في المدينة جميعهم (أو على الأقل جميع الذين تحدّثنا إليهم) متفقون على تجريم هذه الأعمال الإرهابية التي أضرت بالمدينة و صورتها و يباركون العمليّة العسكريّة في الجبل و يطالبون بعودة الحياة الى ماكانت عليه ،يقول لك التاجر و العامل و الطبيب و المثقف و المسؤول :"الإرهاب دخيل على ثقافتنا و حياتنا ،و أحادث الشعانبي أضرت كثيرًا بصورة المدينة ،خاصة لدى المستثمرين الأجانب و غير أصيلي الجهة ،كما أثّرت كذلك على دخول السياح الى المدينة مما أثّر سلبا على الوضع الإقتصادي الصّعب بطبيعته في هذه المنطقة المهّشة و المنسية" .
هذا و يُذكر أنّنا إتّصالنا بالسيّد يونس البرهومي المندوب الجهوي للتنمية بمحافظة القصرين لأخذ كل المعلومات الكافية عن واقع التّنمية و الإستثمار و المشاريع في المدينة و إتفقنا يوم أمس الثلاثاء على موعد اليوم الإربعاء على السّاعة الحادية عشر بمكتبه بالمندوبيّة و لكن عند وصولنا إعتذر عن تقديم تصريحات لأنّهم في إضراب مفتوح على حدّ قوله !!
الوصول الى جبل الشعانبي أو الجبال القريبة منه أمر غير ممكن لأنّها منطقة عمليات عسكريّة مغلقة و يمنع الإقتراب منها ،و ببحثنا عن تأثيرات هذا القرار على سكّان المدينة و العاملين بالجبل خصوصا الرّعاة و منتجي النّحل و جامعي الحلفاء ،أكّد لنا إبراهيم غ (58 عاما) الذي رفض التّصوير و هو راعٍ صاحب قطيع أغنام بأنّ "وجود الإرهابيين أثّر سلبا على حياتهم و على عملهم و مصدر رزقهم الوحيد فقد تقلّصت كثيرا مساحات الرّعي الممكن دخلوها فالخوف من الألغام أوّلا و القرار بإغلاق المنطفة عسكريًا لم بترك لنا سوى مساخات ضيقة ندخلها و لا نتقدّم كثيرا خوفا على أرواحنا و قطعاننا" .
و أضاف إبراهيم الذي إلتقيناه بمقهى وسط المدينة بأنّ الأمر إذا تواصل بهذه الشّاكلة فسيفكّر جديًا في بيع القطيع و البحث عن بدائل أخرى يُعيل منها عائلته و أطفاله ،رغم أنّه و منذ أربعة عقود لم يشتغل في شيء آخر سوى تربية الماشية على حدّ قوله .
الفقر و البطالة ،،سمات المدينة الأبرز :
لا يكاد الملاحظ بالعين المجرّدة العابر للمدينة أنّ القصرين تفتقد لعمل كبير على مستوى البنية التّحتية فحالة الطّرقات و النّظافة و الإضاءة العموميّة و الأحياء السّكنيّة الشّعبيّة يلزمها الكثير من العناية و الإصلاح و التّحسين ،يعود سكّان المدينة بهذا الأمر الى التهميش الذي عاشته المدينة منذ الإستقلال على حدّ تعبيرهم ،و حتّى الثّورة التي كانوا الأكثر فاعلية فيها و تقديما للشّهداء لم تقدّم لهم شيئا رغم كلّ الوعود برصد ملايين الدّينارات من أجل التّنمية و التشغيل .
المقاهي كلّها مليئة بالشباب العاطل عن العمل الذين ينفقون اليوم بين السّجائر و قهوة "الفيلتر" الرّخيصة و الأمل بالشّغل و حياة أفضل ،سألنا مجموعة منهم كانوا يلعبون الورق في مقهى شعبيّ عن الحياة في المدينة و التشغيل و الوضع الإجتماعي ،فأكّدوا جميعا بأنّ الحياة صعبة جدًّا و أنّ البطالة تخيّم على الجميع ،،نزار (29 عاما) خريّج شعبة الإقتصاد منذ العام 2007 قال بأنّه شارك في مناظرة "الكاباس" الأخيرة التي تنتدب الدّولة من خلالها العاملين في سلك التّعليم و لكن لا أمل له في النّجاح "لأنّنا فقراء و لا نملك وساطات" و يضيف نزار :"معظم الشباب هنا مجاز وعاطل عن العمل و لا حلم له سوى الهجرة الى أوروبا ،شخصيًا حاولتُ بعد الثّورة أن أقوم بــ"حرقة" (هجرة سرية عبر البحر) و لكنّ لم أتمكّن بعد تمّ إكتشاف أمرنا و تمّ توقيفي لأيام طويلة في مركز الشّرطة ،وأصدقك القول لو تمكّنت مرّة أخرى لأعدتُ الكرّة ،،ماذا تريدني أن أفعل؟ هل تريدني أن أموت بالجوع ؟،أليس من حقّي الزواج و بناء بيتي و إسعاد أمّي؟ هذه الدّولة لا تعيرنا أيّ إهتمام " يقول نزار و هو يدخّن بعصبيّة سيجارة "الكريستال" الرّخيصة .
كلّ الشباب في المدينة يشتكي من البطالة ،و من عدم وجود فرص حقيقية للتشغيل و مشاريع تنموية و اضحة ،فمعدّلات البطالة في القصرين تعد من أعلى النّسب في البلاد و هو ما يجعلها منطقة خصبة لتفريخ الإرهاب و الظواهر الإجتماعية السيئة كإنتشار الجريمة و المخدّرات و هو أمر يراه الخبراء عاديًا في كل المناطق التي تعرف فقرا و غيابا لحلول تنمويّة جذريّة ،فالقصرين ككل مناطق البلاد الدّاخلية تعاني من حيف عدم التّوازن في توزيع الثّروة لذلك أقرّ الدّستور الجديد ما أسماه "التمييز الإيجابي" من أجل الرّفع من مستوى التّنمية في مناطق البلاد الدّاخلية و الحد من البطالة و ظاهرة الهجرة الدّاخلية التي أثقلت المدن الكبيرة كالعاصمة و مدن السّاحل و صفاقس و محاولة خلق فرص عمل و تحسين الوضع الإجتماعي بهذه المناطق الشيء الذي من شأنه أن يجفّف الكثير من منابع الإرهاب في البلاد .
أحداث الشعانبي و الرّفض الشّعبي :
لا يكاد يختلف إثنان في مدينة القصرين عن رفض ما يحدث في جبل الشعانبي و تجريم الأعمال الإرهابية التي تستهدف الآمنين و قوّات الجيش و الأمن الوطني ،فالجميع يؤكّد على أنّ أكبر ضحايا هذه العمليات هم أهالي القصرين ،فسمعة المدينة أصبحت سيئة جيّدًا عند المستثمرين و السياح و الأجانب و رغم أنّ المدينة نفسها لم يحصل بها أي عمل إرهابي و لكن الأحداث رغم ذلك و قرب المدينة من الجبل لا يشجّع المستثمرين على القدوم و العمل بالمنطقة ،و أكّد الأهالي الذين تحدّثنا اليهم بأنّهم مصرّون على مقاومة الإرهاب و هذه الصّورة الجديدة عن الدينة بمختلف الأشكال ،و قد تمّ تنظيم مهرجان للرعاة أواخر الشّهر الماضي في السفح الشّرقي لجبل سمامة القريب من الشعانبي ،حيث تم تنظيم مهرجان لجز الأغنام و احتفالية موسيقية على انغام "القصبة" و الشعر البدوي و طهي "الكسكسي" الأكلة الشّعبية الأشهر في تونس ،كدلالة رمزيّة لمقاومة الإرهاب و رفضهم الجذري له و عدم خشيتهم من مواجهته على حدّ تعبيرهم .
و في سياق متّصل كان رئيس الجهورية التونسيّة المؤقت محمد المنصف المرزوقي قد أدّى يم أمس الثلاثاء 6 ماي 2014 زيارة ميدانية إلى المنطقة العسكريّة المغلقة بجبل الشعانبي ،حيث يقوم الجيش التونسي بعملية واسعة النّطاق ضد المسلّحين المتحصّنين بالجبال المتاخمة للحدود الجزائريّة منذ أغسطس/آب العام الماضي ،وكان المرزوقي مرفوقا في زيارته التي أدّاهل اليوم بكل من وزير الدفاع غازى الجريبي ورئيس أركان جيش البر الجنرال محمد صالح الحامدى.
وأشاد رئيس الجمهورية في كلمة للجنود بالجيش الوطني التونسي الذى "يمثل درعا للوطن وبتضحيات الوحدات المنتشرة والمرابطة في مسرح العمليات بجبل الشعانبي وجبل سمامة، مكبرا فيهم صمودهم واستبسالهم في محاربة الارهابيين وتضحياتهم في الذود عن حرمة الوطن" وفق بلاغ صادر عن رئاسة الجهورية اليوم .
و وفق ذات البلاغ فقد اعتبر الرزوقي أن "الحرب على الارهاب حرب طويلة وصعبة لكن تونس ستنتصر فيها بفضل تضحيات جيشها وأمنها وشعبها، داعيا المغرّر بهم من الارهابيين إلى تسليم أسلحتهم والعودة إلى رشدهم والتخلّى عن حربهم العبثية والخاسرة ضد بلدهم" على حدّ تعبيره .
و في رسالة وجّها المرزوقي إلى الإرهابيين المتحصّنين بالجبل دعا المرزوقي:""المُغرر بهم الذين لم تلطخ أيديهم بدماء التونسيين إلى ترك السلاح والعودة إلى الشعب" قائلا "باب الأمل مفتوح ... باب الصفح مفتوح". على حدّ تعبيره
كما أكّد المرزوقي في كلمته بأنه تم في مجلس الأمن الأخير إقرار أن تكون هناك قوانين للعفو والصلح لكل من لم يقتل تونسيا مضيفا أنّه يقول هذا الكلام ليس محبة في هؤلاء بل في أمهاتهم على حدّ قوله .كما أكّد رئيس الجمهورية التونسية المؤقت بأنه "قريبا سيقضي الأطفال عطلهم المدرسية في هذه المنطقة" مضيفا في رسالة إلى عناصر الجيش الوطني بأنّه "سيتذكر الأطفال أن من فتح لهم هذه الجبال هم أنتم" مضيفا "أنتم أبطال الوطن...أنتم درع الوطن" وفق تعبيره .
هذا و يذكر أن وزارة الدّفاع التونسية كانت قد أعلنت منذ 11إبريل/نيسان الماضي منطقة الشعانبي في محافظة القصرين وسط غربي البلاد و الجبال المجاورة لها منطقة عسكريّة مغلقة على خلفية الأعمال العسكريّة الجارية في المنطقة الجبلية التي يتحصّن بها عناصر جهادية مسلحة.
و يذكر أيضًا أن الأحداث في جبل الشعانبي قد بدأت منذ إبريل من العام الماضي حيث بدأت عمليات زرع الألغام و تفجيرها في المنطقة الجبلية الحدودية مع الجزائر ،و كانت أكثر العمليات دمويّة في ما يعرف بــ"سلسلة جبال الشعانبي" هي تلك التي حدثت في في 29 يوليو 2013 حيث قتل 8 جنود في كمين مسلح ،وأعلنت بعدها تونس الحداد لثلاثة أيام ، كما أعلن بعدها وزير الداخلية التونسي لطفي بن جدو أن وزارته تعرّفت على جميع عناصر المجموعة المنفذة لأحداث الشعانبي وهم تونسيون وجزائريون ينتمون لخلية عقبة بن نافع التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.