مات الأب.

وموته أصبح لا شك فيه؟ 

فها هي الجثة على الفراش راقده لا كلمة و لا حركة ولا نفس ولا صوت عالي يكهرب البيت المتكهرب دون أي كهربه تصدر من الأب أستاذ الكهرباء والتي تكهرب منها كل من في البيت فالأب كان عادلا في تلك المسألة ولم يكن يميز أحدًا على أحد فهو لم يكن ينحاز إلا إلى نفسه التي كان يرى أنها أهم شيء في الدار التي أقامها بالتعب والعرق وأتى بهؤلاء الأولاد ليس من أجل تكوين أسرة تحسسه بقيمته وذاته ووجوده وإنما أتى بهم لكى يفرغ عليهم مشاكله النفسية التي تكونت نتيجة لحياة قاسيه فكان هو أيضا قاسيا حيث أذاق أولاده مما ذاقه وزيادة وتلك الزيادة كان الأب بارعا فيها لدرجة جعلت ابنه فتحي يشك في أشياء كثيره كان يراها ويعيش فيها دون رغبة منه وكان فتحي يسأل نفسه (لماذا أبيه بتلك القسوة دون غيره من الآباء فكل الآباء تخاف على أبنائهم وتعمل المستحيل لكى تسعدهم في الدنيا وإن أمكن في الآخرة فأنا لي صديق يقول عن أبيه ما لا يصدق بالنسبة لي حيث يقول أن أبيه يقول له (أنه يريد منه أن يكون رجلا يفرح به لذا فهو يعمل ليل نهار من أجل أن يوفر له ما يساعده على تحقيق ما يحب أن يجده عليه) وكلما أتذكر هذا الصديق وما يقوله عن أبيه أصاب بالغثيان وأتمنى ماذا اتمنى غير أن أجد الموت حيث يبدو أنه هو الحل لما نحن فيه من لا إنسانيه.. 

 وها هو الموت يعرف طريق بيتنا أخيرا حتى يعيد ترتيبه من جديد.. هذا الفعل الذي اسمه الموت الذى نخاف منه ونبغضه لكنه في الحقيقة شيء لابد منه بل هو شيء لابد أن يكون موجودا لأنه باستمراره يعيد ترتيب الأوضاع وخصوصا وضعنا الشاذ الذى أوجده الأب الذى أوضح وأكد لنا جميعا ولكل الناس أنه أكبر شاذ في العائلة بل قل في القرية كلها). 

آه من هذا المصير المحتوم والذي لا مفر منه ومع هذا يخاف منه الجميع. 

من أيام كان هذا الرجل يملئ البيت رعبا والكل يتمنى الموت أن يأتي له لأنه مانع للحياة من أجل حياته هو فهو لكى يحيا يري أنه لابد أن يمنع الحياة عن الآخرين من أجل أن يكون البيت له واحده؟!!!

فهو يعتبر مانع للحرية وأي إنسان يعد مانع للحرية لا أمل فيه ولا خير يرجى منه. 

 لذا موت الرجل أعنى الأب مهم ومطلب عائلي تتمناه العائلة ورغم أن الموت قد تأخر بعض الشيء في نظر بعض الأولاد بل قل في نظر كل الأولاد.

فالكل كان يتمنى أن يرحل هذا الرعب هذا الخوف هذا القلق المتمثل في صورة الأب)

وفجأة يرحل الأب نتيجة ازمه قلبيه أتت بغتة فعمل الكل على إخراج الجنازة كما ينبغي أن تكون والحزن يكسو الوجوه رغم أن بعض الحزن مصطنع لزوم الحبكة من أجل الشكل العام .. الكل يبكى والدموع تجرى على الخدود بدون حساب. 

البعض لا يصدق أن ما حدث قد حدث لذا فنجدهم في شك من أمرهم وعدم تصديق وجلسوا أمام الدار على المصطبة. 

والذهول يكسوا وجوههم المتعبة المجهدة من الخوف واليأس من رحيله لذا فلا أحد يصدق أن الأب اصبح جثة وأن الجثة الموجودة داخل الدار .. حقا غريبة تلك الدنيا التي نتحرك ونعيش فيها فلا يوجد شيء واحد منطقي في تلك الدنيا الغريبة فالمكسح هو المخيف والفاشل هو الغنى و الأهطل هو صاحب المنصب المرموق والغبي هو صاحب الشهادة!

 لا أحد منهم يصدق ما حدث ويحدث.. البعض يصدر عنه نحنحات لا تخرج إلا إذا كان يوجد فقيد عزيز. صواني أكل داخله تحملها نساء وصبايا العائلات القريبة من المرحوم هذه الصفة التي حملها منذ أقل من ساعتان و هو الذى كان يحمل ألقاب عدة منها البلطجي والرجل الحشاش والرجل اللي مش راجل و الرجل المقطف وأخيرا الحاج نظرا لكبر سنه.. الكل حزين إلا الحاج عبده يوسف الذى قال عندما أخبره أخيه الصغير بأن محمد المقطف مات فرد معقباً ( في داهية تأخذه). 

 وقد وصل الأمر بالحاج مدحت أن توقف عن قطع الزريبة الذى بدأ فيها من بعد صلاة الفجر لأنه ما أن انتهى من الصلاة حتى توجه للزريبة وأخرج البهائم منها إلى حيث يربطهم بعد أن يتوجه بهم إلى الحوض الموجود خلف الدار.. وقد شربت البهائم حتى شبعت فسحبهم الحاج مدحت إلى المربط الذي يربط فيه البهائم وربطهم فاندفعوا في أكل التبن. 

 ثم بعد ذلك عاد الحاج مدحت إلى الزريبة وسحب الفأس وبدأ في قطع الوحله التي لم تقطع منذ فتره طويلة فتحولت إلى طبقة سميكة جدا تتطلب مجهودا مضاعفا في قطعها. بدأ نشيطا راغبا في قطع الزريبة في أسرع وقت حتى يتمكن من إخراجها قبل صلاه الظهر. 

  • توقف عن القطع عندما سمعت أذنه (الفطار يا حاج مدحت).

ترك الفأس واستدار إلى خارج الزريبة فوجد زوجته الحاجة أم محمد تجلس تحت شجره الجازورين وأمامها صنيه عليها الفطار، اسرع الحاج مدحت الى غسل يديه في الحوض ثم توجه إلى حيث تجلس زوجته وقبل أن يجلس بجوارها مد يده وأنزل القلة المعلقة في احد فروع شجره الجازورين ثم جلس بجوار زوجته وقال هامسا.

  • منوره يا أم العيال.
  • أنت اللي منور يا راجل، وشد حيلك حتى تلحق صلاة الظهر و الجنازة.
  • حاضر ما أنا برضه ناوى أخلص قطع الزريبة و أخرجها ثم اسرع إلى الجامع. 
  • براحتك دي ده ينفع يا راجل آه ما أنت عاوز الناس تقول أنك متجوز جاموسة.

فيضحك الحاج مدحت بمليء ما فيه، فتناثر الطعام من فمه ودمعت عينيه.

  • أه منا عارفه أنك بتضحك علشان أنت متزوج جاموسة...عاوز الناس تقول ذلك؟!
  • بس بأه لكى أنتهى من تناول الفطار بسرعه لكى اكمل قطع الزريبة وطلعها قبل الظهر كما تعلمي. 
  • هتروي الأرض أمته.
  • إن شاء الله لما ارجع من الجنازة أنام ساعة ثم بعد ذلك اخذ الطنبور و اركبه على راس الأرض وقبل ماطنبر الف على احواض الخضرة و أنقى الحشائش التي توجد فيها. 
  • اه ماتنساش تسيب ميه على المعجنة.
  • اه طبعا يا حاجه ما أنا عامل حسابي على ذلك لأنى عاقد العزم أن ابنى مقعد أو اثنين للعيال. 
  • ربنا يسهل يا حاج وأنا رجعه الدار علشان أولع الكنون واطبخ علشان الميتم ربنا يصبره اهله.
  • ارتاحوا يا حاجه!
  • لا تقل ذلك؟!!

وتقف لكى تعود إلى الدار لكن الحاج مدحت اشار لها لكى تبقى حيث وقفت وصنيه الأكل بين يديه ووضعها على راس زوجته وهو يقول متشكرين وبالسلامة

  • لا تنسى الجنازة. 
  • يا حاجه ودى جنازة تتنسى. 

ويعود الحاج مدحت إلى الزريبة ليعاود القطع فيها لكنه ينده بصوته الجهوري.

  • يا حاجه يا حاجه خذي معاك عودين حميض واطبخيهم لنتعشى بيهم اليوم. 

فضحكت الحاجة وهمست لنفسها (الراجل ده طيب لحد العبط بس لما اشوفه؟!!!)

حسين عبدالعزيز