ليس هناك أكثر لبسا في علاقة العرب بالقوى الكبرى مثل اللبس الحاصل مع روسيا. فالروس الصامتون أبدا على الصراع العربي الصهيوني يتعاملون مع الواقع العربي وفق الرؤية الروسية دائما. حتى الدول الحليفة لهم علاقتهم بها دائما دائرية، وغامضة رغم متانتها أحيانا. من مصر الخمسينات إلى عراق العقود الثلاثة بعد السبعينات إلى الجزائر إلى سوريا إلى ليبيا، كلها دول في المفاهيم الدبلوماسية حليفة لروسيا وتعاملها معها تعامل خاص على اعتبارها دولا خارج الرضى الأمريكي التام. غير أن لحظة الربيع العربي خلقت نوعا خاصا من العلاقة بين روسيا وليبيا أولا من خلال الموقف الباهت والسلبي تجاه مع وقع، ومع سوريا التي تعتبر استثناء بالنظر إلى الحسم في مساندتها لنظام الرئيس بشار الأسد، رغم أنه في الحالتين كانت العين الروسية اقتصادية أكثر منها مساندة سياسية.
سوريا في ليبيا وشعار "لا أضع بيضي في سلة واحدة"
تعود العلاقة الليبية الروسية إلى عقود طويلة سبقت حتى ثورة الفاتح من سبتمبر، لكن الثورة فتحت مسارا آخر في العلاقة. فالعقيد الليبي معمّر القذافي كان متأثرا إلى حد كبير بالفكر الاشتراكي في الحكم وهو المسار ذو التاريخ الطويل في الاتحاد السوفياتي قبل تفككه. وقد حافظت عليه "جماهرية" معمّر القذافي كخيار اقتصادي مثل استثناء في محيطه شرقا وغربا ودفع ضريبته باهضا.
علاقة ليبيا بروسيا عرفت أوجها في تسعينات القرن الماضي بعد اعتراف النظام في ليبيا بروسيا الاتحادية عقب نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي بشكله القديم. وقد توجت تلك العلاقة بعدة زيارات واتفاقيات اقتصادية تركزت خاصة في مجالات الطاقة نظرا لاتهمام البلدين بها انتاجا للأولى واستثمارا للثانية، حيث تذكر بعض الأرقام أن حجم التبادل الاقتصادي يتجاوز المليار دولار وهو رقم هام يُفهم منه جعل روسيا من ليبيا من أهم حلفائها رغم أن الوقائع لا توثق مواقف ثابتة لوقوف الروس إلى جانب ليبيا في حصارها خلال التسعينات.
وتواصلت العلاقة بدعم الاتفاقيات القديمة بأخرى مع بداية الألفية ألحق بها التعاون العسكري من خلال توقيع عقود لشراء أسلحة روسية متطورة تشمل الدفاعات الجوية والغواصات البحرية بأرقام قاربت 3 مليار دولار، تم تسهيل وصولها بعد زيارة هامة لرئيس الوزراء آنذاك فلاديمير بوتين وأعلن خلالها عودة التعاون العسكرين.
لكن الحلقة الفاصلة في علاقة الروس بليبيا، كانت في أزمة فبراير2011، حيث فاجأت موسكو حتى المراقبين بتراخيها في إصدار موقف مساند لأحد الأنظمة الحليفة في المنطقة وبقائها في موقف المحايد، بل هو موقف خذل النظام الليبي الذي تكالبت عليه القوى الغربية والإقليمية وكان في حاجة أكيدة إلى حليف مساند، لكن عدم رفع الفيتو في قرار مجلس الأمن العدواني الشهير حول ليبيا، كان رضى ضمنيا من الروس على ما وقع وتخليا رسميا على نظام لطالما اعتبر ضمن المعسكر الروسي في علاقة بعدة ملفات اقتصادية وسياسية.
بعد الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي كان الاعتقاد أن الروس سيفقدون مكانا استراتيجيا كان سوقا اقتصادية كبيرة لديهم بالنظر إلى أن الفاعلين الجدد في ليبيا اتخذوا مواقف من كل من كانت علاقاته قوية بالنظام، لكن تطورات الأحداث أبقت لروسيا على موقعها بين الفاعلين كنوع ربما من حسابات الاقتصاد التي تفكر فيها موسكو بغض النظر عمن يحكم أو من لديه القوة على الأرض.
خلال سنوات الأحداث الأولى في ليبيا كانت مواقف روسيا أنها ضد الفوضى ومع الحلول السلمية التي تضمن الأمن. كانت تلك المواقف تسجيل نقاط على الخصم الآخر الأمريكي الذي لم يكن صوته مرتفعا في السنوات الأولى، وعلى ذلك الأساس سعت موسكو لربط خيوط التواصل مع المتنفذين ميدانيا إلى حين صعود المشير خليفة حفتر كقوة جديدة ماسكة بزمام موقعها في تشكيل نواة الجيش الذي سيحسم بعد ذلك عدة معارك ويكون محرك اللعبة في شرق البلاد بفضل توفر عدة أطراف مساندة داخليا وخارجيا.
علاقة روسيا بخليفة حفتر ترجمتها زيارة رسمية للأخير في يناير 2017 استقبل فيها كما يستقبل الزعماء الكبار، وهذه كانت إشارة من الروس أن لديهم حليفا جديدا يمكن أن يكون صاحب الكلمة الفصل في عدة مسائل. حفتر نفسه أصدر تصريحات قريبة من المغازلة لموسكو بأن الليبيين أياديهم مفتوحة لأي دعم روسي من أجل مساعدتهم في معركة استرداد الكرامة ومواجهة الإرهاب. الأمر الذي تلقفته وسائل الإعلام المعادية لحفتر خاصة القطرية والإخوانية بأنها دعوة للتدخل العسكري بل جعلوها دعوات لإقامة قاعدة روسية في ليبيا وحددوا مكانها في طبرق الأمر الذي جعل قيادة الجيش عبر ناطقها الرسمي أحمد المسماري تنفي الخبر مطلقا.
ورغم العلاقة القوية بحفتر، فإن روسيا حافظت أيضا على تواصلها مع غرب البلاد حيث كانت في استقبال رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج في مارس 2017، رغبة منها في الإبقاء على حبل الود بين جميع الأطراف، وأكد ذلك السراج نفسه عندما عبر عن قناعته بأن روسيا قادرة على الاطلاع بدور إيجابي في بلاده الأمر الذي فسره مراقبون برغبة من طرابلس في التقريب بينها وبين قيادة الجيش المقربة من موسكو، الأخيرة التي تنظر إلى هذه المسائل بإيجابية لكي تحافظ على حبل التواصل مع كل الأطراف وإيمانا منها أن صاحب المصلحة لا يرمي بيضه في سلة واحدة تحسبا لتطورات الأمر الواقع.
الروس في سوريا.. المصلحة تفرض التضحية
علاقة الروس بسوريا مسألة أخرى تماما. في الحالة السورية وضعت روسيا بيضها في سلة واحدة بشكل واضح وهي سلة نظام الرئيس حافظ الأسد الذي بالتأكيد كانت موسكو مساهمة بشكل كبير في بقائه وإعادته في موقع القوة بعد محنة سنوات "الثورة" التي أرهقت البلاد كثيرا وأعادتها خطوات إلى الوراء.
تعود العلاقة بين دمشق وموسكو بدورها إلى عشرات السنين، منذ أن كان الاتحاد السوفياتي الذي اعترف مبكرا باستقلال سوريا عن فرنسا ليتوج ذلك الاعتراف بعلاقات دبلوماسية كانت فاتحة لمراحل أخرى من التواصل تدعمت أساسا مع نظام البعث الذي يشترك مع السوفيات في تبني النهج الاشتراكي.
ورغم عراقة العلاقة الدبلوماسية ومتانتها في فترة الرئيس الراحل حافظ الأسد، لكن فترة صعود بشار الأسد خلفا لوالده على كرسي الرئاسة في دمشق، تعتبر استثناء حيث عرفت نقلة في مستوى الاتفاقات العسكرية والاقتصادية أهمها على الإطلاق إلغاء الديون الكبيرة لدى موسكو التي قررت التخلي عن 11 مليار دولار من أصل 13 في سابقة تاريخية في مستوى العالم وحتى بقية المبلغ تم الاتفاق على جدولته في شكل استثمارات للروس على الأرض السورية.
من الطبيعي أن هذا الإجراء الروسي لم يأت لأجل عيون السوريين، لكنه عموما كان لصالحهم. فكابوس الغاز الروسي نحو أوروبا يبقى المحدد الأكبر في العلاقة على اعتبار أن سوريا هي البوابة المريحة لروسيا في عمليات التصدير ولا تريد أن تخسرها خاصة بوجود خصوم ينتظرون في الزاوية ويقومون بكل شيء من أجل الإطاحة بنظام الأسد الذي بفرضية سقوطه يسقط المشروع الروسي في دمشق والمنطقة. ومن أجل ذلك وضعت روسيا كل إمكانياتها للدفاع عن حليفها رغم الضريبة التي ستكون قاسية جدا في الكواليس لن يكون النظام في سوريا بعدها مثلما كان قبل الأزمة.
خلال الأزمة التي بدأت في سوريا في موجة الحراك العربي، وجدت روسيا نفسها في مرمى الاتهامات من قبل خصوم الأسد الذين اعتبروا وجودها معرقلا للإطاحة به. فالأزمة بين الروس وداعمي الأحداث في سوريا ألقت بضلالها حتى على مجلس الأمن الذي كان في مرات كثيرة مساحة للسجال بين مندوب روسيا ومندوبي الدول المذكورة.
وعلى الرغم من الخسائر التي وقعت لروسيا بشريا وماديا لكنها واصلت وتواصل دعمها للنظام القائم الذي تقول وقائع الأرض أنه استعاد زمام القوة وأعاد لنفسه موقع القوة وقد ساهمت في ذلك أيضا تخلي الدول الداعمة للمجموعات الإسلامية المسلحة عن حلفائها الأمر الذي أضعفهم وأفشل مشروعهم، وفي كل هذا كان الروس جزءا من الأحداث وسيكونون بحسب مراقبين جزءا من السياسة الروسية لسنوات قادمة قد تتغير فيها حتى سياسات النظام السوري من عدة قضايا، وهو ما يحيل إلى نوع من النفوذ الجديد الذي لا مهرب للسوريين منه.