مرة أخرى تتصادم المواقف بين روسيا وتركيا، ولكن هذه المرة في ليبيا التي يتجه نظام أردوغان للتدخل فيها عسكريا بدعوة من حكومة فائز السراج، في الوقت لا تواجه فيه موسكو اتهامات بدعم الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر، كانت صدرت أولا عن ميلشيات إسلاموية حاولت من خلالها تبرير هزائمها المتتالية في محاور القتال حول طرابلس وثم تبنتها جهات غربية بما فيها الولايات المتحدة.
ويرى المراقبون أن روسيا تدافع عن موقفها وهو دعم مؤسسات الدول، وخاصة عندما تكون في حرب ضد الإرهاب، بينما تتبنى تركيا مواقف الميلشيات، وبخاصة ذات المرجعيات الدينية، أو المرتبطة بها ثقافيا كالأقليات المنحدرة من أصول عثمانية في دول مثل العراق وسوريا وصولا الى ليبيا التي تتجه لإنزال قوات فيها غربها المضطرب
وفي هذا السياق، أعربت روسيا أمس الجمعة عن قلقها البالغ، إزاء احتمال نقل تركيا قوات عسكرية إلى ليبيا، وفق الاتفاق الأمني الذي أبرمته أنقرة مع حكومة فايز السراج أواخر الشهر الماضي.
وقال مصدر في الخارجية الروسية، رفض الكشف عن اسمه، إن موسكو قلقة بشدة من احتمال إرسال تركيا قوات إلى ليبيا، مشير الى أن الاتفاق الأمني بين تركيا وحكومة السراج يثير تساؤلات كثيرة.
ويعتبر موقف الخارجية الروسية منسجما مع توجهات بلادها في التعاطي مع الملف الليبي، حيث ترفض وبقوة التدخل الخارجي في أزمة أكد الرئيس فلاديمير بوتين أن المسؤولين عنها هم الذين شرعوا تدخل الناتو في العام 2011، وأن الحل هو وقف الاشتباكات المسلحة وتفاهم أطراف النزاع على من سيحكم البلد وكيف وفي إطار أي سلطة.
تتميز العلاقات بين موسكو وأنقرة بالبراجماتية الشديدة ، فالروس يعملون على تحاشي أي تلاعب تركي بالتركيبة الثقافية للأقليات المسلمة في بلادهم المعروفة بجذورها الطورانية ، وخاصة في الجمهوريات ذات الأغلبية المسلمة ، ويعملون في ذات الوقت على تحييد تركيا كواحدة من دول الناتو ، وعلى استعمالها لاختراق المنطقة ، بينما يسعى الأتراك الى الاستفادة من روسيا في استفزازهم لحلفائهم الغربيين ، وخاصة الاتحاد الأوروبي الذي رفض انتمائهم إليه، والولايات المتحدة التي ترفض اندفاعهم لتنفيذ مشروعهم التوسعي على حساب بقية حلفائها.
ومن خلال هذه المنطلقات كان التدخل الروسي في الصراع الأهلي السوري كقوة دعم للنظام ، شكلا من أشكال التحدي لتركيا الداعمة للميلشيات المسلحة وخاصة الإسلامية والعرقية التركمانية ، ولكن دون أي احتكاك بينهما ، نظرا لحاجة أردوغان لموسكو من جهة ، ولعجزه على مواجهتها من جهة ثانية ، وهو ما دفع به الى البحث عن توافقات معها لتقاسم النفوذ في سوريا ، في حين كانت روسيا تعمل ليس فقط على تأمين منفذها على المتوسط ، ولكن كذلك لمنع أي مخطط لاستهدافها مستقبلا عبر نقل مسلحي القوقاز والجماعات الإرهابية الى داخل أراضيها كما حدث في حرب الشيشان، أو الى جوارها كما تم خلال حرب أفغانستان.
أما بالنسبة لليبيا، فإن الموقف الروسي الداعم مبدئيا للحرب على الإرهاب والميلشيات الخارجة عن القانون ، أي للجيش الوطني في عملية بسط نفوذ الدولة على أراضيها ، فيأتي من خلال رغبة روسيا في تأمين مصالحها في دولة كانت صديقة للاتحاد السوفياتي السابق، ولها معها اتفاقيات مهمة أبرمت في العام 2008 بين بوتين والقذافي ، وتأكيد حضورها في الشمال الإفريقي كقوة عائدة الى عراقة إرثها الأمبراوطوري، والقضاء على الإرهاب وعلى الجماعات المتشددة في حوض المتوسط ودول الساحل الصحراء ، وكذلك تأمين أصدقائها في المنطقة وبخاصة مصر التي ترتبط معها بعلاقات متينة منذ وصول الرئيس عبد الفتاح السيسي الى الحكم والجزائر التي تمثل حليفا قويا وعريقا للروس
في الوقت الذي يتبنى فيه أردوغان مشروع الإسلام السياسي في دول المنطقة بما فيها سوريا وليبيا، كانت روسيا سباقة في تصنيف جماعة الإخوان تنظيما إرهابيا منذ العام 2006، بسبب تورطها في حربي الشيشان الأولى والثانية وفي عشرات الأعمال الإرهابية في الداخل الروسي، وكذلك نتيجة لاقتناع موسكو بارتباط الجماعة بأجندات خارجية تستهدف كيانها الاتحادي.
ويرد الباحثون الموقف الروسي من الإخوان الى القدرات الفائقة لمخابراتها المتمكنة من ملفات الجماعة منذ أن كانت على علاقة تحالفية مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر في مصر، ثم الرئيس حافظ الأسد في سوريا، وهو موقف تبين لاحقا أنه على صواب، نظرا لما يعتبره الروس تلاعبا من قبل أجهزة المخابرات الغربية بالإسلام السياسي لاستهداف سيادة الدول وضربها من الداخل وتحويلها الى ساحات نزاع لفائدة قوى التطرف ولصوص المال العام كما هو الشأن في ليبيا.
وكان إخوان ليبيا قد اعتبروا روسيا عدوا لهم، وهو ما تورط فيه فائز السراج عندما سافر في أكتوبر الماضي لحضور القمة الأفريقية الروسية الأولى في سوتشي مصحوبا بأحد عتاة الإرهاب في الجماعة المقاتلة وهو أبوعبيدة الزاوي، كنوع من الاستفزاز للروس، لم تكن تركيا بعيدة، حيث أن الزاوي دخل الأراضي الروسية مع وفد السراج بجواز سفر تركي.
ويشير المراقبون الى أن روسيا اليوم تبدو أقرب في موقفها الى واشنطن والاتحاد الأوروبي في إبداء الرفض للتدخل التركي في ليبيا، عكس ما حصل في سوريا، نظرا لاعتبارات عدة منها بالأساس الرغبة في تطهير الأراضي الليبية من الإرهاب، وتكريس الحل السياسي، ومنع هاجس التوسع لدى تركيا والذي لم يعد يستثني أيا من دول جوارها بما في ذلك الجمهوريات الروسية المرتبطة بها عرقيا وعقائديا.