يحفظ ضريح “الشيخ محمد الأغظف” تاريخا كاملا عاشه هذا الشيخ الصوفي وعلمه لمريديه، عاين خلاله تواريخ فاصلة صنعت حاضر المغرب المعاصر، وشارك في معارك التحرير التي قادتها قبائل الصحراء طلبا للاستقلال، فأضحى ضريحه في عرف أهالي طانطان معلما لاستدعاء الأمجاد، وذاكرة تؤرخ لبسالة الصحراويين في الدفاع عن أرضهم.
على تلة تكسوها رمال الصحراء، وتستقر على سفحها إحدى أشهر مدن الجنوب المغربي، مدينة طانطان (1000 كلم جنوب الرباط)، تنتصب زاوية “الشيخ محمد الأغظف” أحد أشهر رجال الصحراء المغربية وأعلامها.تاريخ صاحب الزاوية العتيق يجعله مزارا ومصدر اعتزاز للمغاربة ففي كل عام يقام مزار صوفي يحضره أحفاد “الشيخ محمد الأغظف” ويتقاطر عليه أهالي المدينة من المنتسبين إلى لطريقة “الفاضلية المعينية” وغيرهم، حيث يستذكرون خلاله بطولات هذا القائد الصحراوي خلال معارك التحرير، ويقصون على أبنائهم جزءا من تاريخ المنطقة وتضحيات أهلها في الدفاع عن أرضهم إبان الغزو الأسباني والفرنسي الذي عاشه المغرب منذ بداية الاستعمار الفرنسي – الأسباني على البلاد سنة 1912 بل وقبل ذلك بسنوات، بعد أن وهنت سلطة السلاطين وضعفت شوكتهم.وعلى غرار باقي المدن المغربية وضواحيها، أثناء زمن الاستعمار الفرنسي والأسباني للمغرب، خاضت الأقاليم الصحراوية الجنوبية، مقاومة شرسة رسمت ملامحها الزاوية “الفاضلية المعينية” وقادها “الشيخ محمد الأغظف”.
ويتحدث شيوخ الزاوية عن سلسلة المعارك الطاحنة التي تقدم فيها “الأغظف” الصفوف، كمعركة “البيرات” سنة 1913 إبان السنوات الأولى للحماية الفرنسية- الأسبانية على المغرب، ومعركة “القليب”، وهما معركتان كانت تسعى عبرهما قوات الاستعمار إلى وأد أية مقاومة في مناطق الصحراء الشاسعة، صعبة الضبط والمراقبة، والتي يعرف أهلها بطبعهم التواق إلى الحرية وإلى عدم الخضوع لسلطة المحتل، فهم المهاجرون رفقة إبلهم في الفلاة، حتى وإن انصاعوا إلى ضوابط القبيلة ونظامها إلا أن حياتهم التي ألفوها في خيام مشرعة أمام السماء والصحراء تجعل الحرية أصلا راسخا في طباعهم.
وخلال “فترات الأزمات السياسية” التي عرفتها البلاد، ورغم الأبعاد التعليمية والتربوية للزوايا الصوفية، فإن وجودها في المغرب ونشاطها في العديد من المناطق، جعل منها مراكزا لحفظ اللغة العربية والإسلام المعتدل، كما أنها سرعان ما تبادر إلى لعب دور سياسي، يصفه بعض رواة تاريخ المغرب، بـ”الحاسم” في عدد من المحطات التاريخية، خاصة أثناء الوجود الاستعماري، حيث شكلت الزوايا على اختلاف طرائقها وتنوع أصولها، معاقل للجهاد ضد المستعمر واستحالت رباطا يتجمع فيه المقاتلون، ويستمدون منه دعما روحيا قبل أن تصير ملجأ يستجيرون به من الملاحقات والاعتقالات.وكان الشيخ محمد الأغظف وهو ملتحف بـ”دراعته” (لباس أهل الصحراء) وبعمامته التي تقيه حر الصحراء القائظ، وعواصفها الرملية العاصفة، يخطب في المقاتلين ليرفع من عزيمتهم، ويوحد صفوفهم. ولا يكاد اسمه يغيب أمام المتصفح لكتب تتناول تاريخ المغرب زمن مقاومة أبنائه للاحتلال، باعتباره مقاوما وشيخا عالما.
واختار عاهل المغرب محمد الخامس منذ عام 1927 حتى عام 1961، أن ينصّب “الشيخ محمد الأغظف” نائبا للمناطق الجنوبية، حيث سيواصل إلى جانب قبائل الصحراء الأخرى المقاومة من أجل استعادة الشرعية والاستقلال، ومع تصاعد التوتر السياسي في المغرب، وارتفاع سقف مطالب الحركة الوطنية المطالبة بإنهاء الاستعمار في مختلف مدن وأرياف المغرب، وتقديمها لوثيقة المطالبة بالاستقلال لدى عدد من رؤساء الدول العظمى والمنظمات والهيئات الدولية، تصاعدت في الآن ذاته المواجهات في الصحراء، لتبلغ ذروتها مع قرار السلطات الاستعمارية نفي الملك المغربي الراحل محمد الخامس وأسرته سنة 1953 عن البلاد، ما أجج المظاهرات المطالبة بعودته وباستعادة المغرب سيادته على كامل أراضيه.ودعا الأغظف إلى تجمع حضره ما يناهز 1000 من شيوخ القبائل الصحراوية، تدارسوا خلاله الأوضاع المستجدة على أراضيهم، وزيادة قمع الاستعمار ضدهم، واستغلاله لمواردهم وخيرات أرضهم، وقرروا التوجه إلى العاصمة “مبايعين” الملك المغربي، وعند عودتهم ضربت السلطات الاستعمارية حصارا خانقا على الأراضي الصحراوية واستمر القصف الجوي على معاقل الصحراويين لأيام، ما اضطر الأهالي إلى مغادرة مناطقهم حفاظا على أرواحهم.وبعد وفاة الشيخ “محمد الأغظف” سنة 1960 قرر الملك المغربي الراحل الحسن الثاني (1961 – 1999) إحياء ذكراه بمدينته طانطان التي عاش فيها زمنا غير يسير، وإقامة موسم احتفالي يتوافد عليه كل سنة المئات من أبناء الجنوب يدعى “موسم الشيخ محمد الأغظف”.
أما الصحراء فلم تستعد استقلالها إلا عام 1975، بعد تنظيم مسيرة حاشدة تدعى “المسيرة الخضراء” من كل مناطق المغرب وأقاليمه بدعوة من الملك المغربي الحسن الثاني آنذاك، قررت بعدها أسبانيا الجلاء عن المنطقة ليستعيدها المغرب، إلا أن الصحراء ستعرف انعطافة أخرى ستجعلها على قائمة الأحداث الدولية الكبرى على مدى عقود، بعد ظهور حركات انفصالية داخلها، ستخوض مع المغرب حربا لن تنتهي رحاها إلا سنة 1991 دون أن يستقر مصير هذه الرقعة على قرار.وبدأت قضية إقليم الصحراء منذ عام 1975، بعد إنهاء تواجد الاحتلال الأسباني بها، ليتحول النزاع بين المغرب وجبهة البوليساريو (التي تطالب بانفصال الإقليم عن المغرب) إلى نزاع مسلح استمر حتى عام 1991، وتوقف بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة، وشكلت بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء، المعروفة اختصارا بـ”المينورسو”، بقرار لمجلس الأمن الدولي رقم 690 في أبريل 1991، ومهمتها الأساسية العمل على حفظ السلام في الإقليم. وتقدم المغرب منذ العام 2007 بمشروع لمنح منطقة الصحراء حكمًا ذاتيا واسع الصلاحيات، فيما ترفض جبهة البوليساريو هذا المقترح، وتصرّ على ضرورة تحديد مستقبل إقليم الصحراء بين البقاء ضمن سيادة الدولة المغربية أو الانفصال عن طريق استفتاء لتقرير المصير.
(*) نقلا عن " العرب الدولية "