يعتبر التعذيب والاحتجاز والاستغلال والاغتصاب من بين الفظائع التي انتشرت في ليبيا بشكل يومي منذ العام 2011 بسبب غياب مظاهر الدولة وإنفاذ القانون. ورغم التحولات التي عاشتها البلاد سواء بإجراء انتخابات كانت بلا نجاعة سواء عبر الاتفاقات الدولية، لكن بقيت مظاهر الاعتقال التعسفي والاحتجاز سائدة دون أن يكون لمرتكبيها أي رادع في ظل ضعف المؤسسات السياسية والأمنية والاقتصادية، الأمر الذي جعل المنظمات الإنسانية الدولية تطلق نداءات استغاثة لإيقاف هذه الجرائم المدانة في كل الأعراف والقوانين.

في قضية الاعتقالات التعسفية هناك إشكال إنساني قبل أن يكون أي شيء آخر. ليس هناك ما هو أقسى على الإنسان أكثر من أن يجد نفسه مظلوما وسط سجون لا تخضع لأي شروط إنسانية ولا تنضبط للقانون. وفي كل المجتمعات التي تعيش حروبا طويلة، من أكثر التجاوزات التي تحصل فيها هي الاختطاف والاحتجاز خارج القانون، وليبيا ليست بعيدة عن هذا الإطار باعتبارها تعيش منذ أكثر من عشر سنوات على وقع صراعات سياسية، تداعياتها كانت كبيرة على الجوانب الإنسانية، ومن مظاهرها الاعتقال التعسفي الذي خلف جروحا كبيرة في المجتمع الليبي وحتى خارجه باعتباره طار الجميع حتى الأجانب، في ظل غياب مظاهر الدولة وانهيار المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية التي أصبحت خاضعة في أغلبها لخيارات مجموعات متنفذة لا يعني لها النظام أو القوانين الشيء الكبير.

خلال العشرية الأخيرة عرفت ليبيا ظروفا أمنية صعبة. عملية إسقاط النظام في 2011 كانت بطريقة غير محسوبة وضمن خيارات دولية وإقليمية تهدف إلى الوصول بالبلاد إلى ما هي عليه اليوم، وهذا نتيجته الطبيعية هي الانفلات وانتشار السلاح والمليشيات وسيطرة اللاقانون والتي كان الاعتقال السياسي والاحتجاز خارج الأطر الشرعية أهم صوره، وما التقارير الدولية التي تنشر سنويا عن تلك الظاهرة إلا دليلا عن حالة الفوضى التي عاشتها ليبيا وبلغت بها مستويات حتى لا إنسانية.

وإذا تم خلال السنتين الأوليين اللتين أعقبتا إسقاط نظام العقيد الليبي، الأخذ في الاعتبار أنها سنوات غير خاضعة للتقييم باعتبار البلاد تعيش تحولات على مستويات مختلفة، لكن ما حصل بعد ذلك كان أخطر مما توقعه موزعو الأحلام الكثيرة، حيث عاش الليبيون سنوات من الحرب لم تنته رحاها إلا منتصف العام الماضي ضمن قناعة محلية وخيارات دولية بأن لغة السلاح لم تعط أي نتيجة سوى مزيد من دماء الأبرياء.

منذ العام 2014، دخلت ليبيا المرحلة الأصعب في تاريخها الحديث، حيث زادت الفوضى وارتفعت حدة النزاع، وبدأت مظاهر الانقسام تبرز بشكل واضح على المستوى السياسي بالأساس، فكانت الفرصة سانحة للمليشيات المسلحة بالتحرك بكل حرية في مدن البلاد، خاصة غرب البلاد، أين كسبت بعض الأطراف نفوذا خاصا وتحالفات محلية وإقليمية كانت في فترات لاحقة مؤثرة في الأوضاع على الأرض.

في كل ذلك كان الاعتقال التعسفي شعارا واضحا، حتى لدى السلطات التي تعتبر رسمية. وإذا كانت الظاهرة منتشرة في مدن كثيرة شرقا وغربا، إلا أن تقارير دولية ركزت على مناطق غرب البلاد على أنها مراكز تجميع خاصة للقادمين من وسط إفريقيا الباحثين عن أمل للمغادرة نحو أوروبا لكنهم يجدون أنفسهم أسرى لدى مجموعات خارجة عن القانون.

وفي تقرير نشرته "هيومن رايتس ووتش"، في 2015، تمت الإشارة إلى أن آلاف الأشخاص احتُجزوا دون تهمة في ليبيا خلال سنة كاملة في أربعة سجون في طرابلس، بما يعتبر جريمة ضد الإنسانية. واستند التقرير الذي تكون من 42 صفحة، إلى مقابلات فردية أجرتها المنظمة مع 120 محتجزا، قدمت فيها شهادات عن تجاوزات كبيرة بحق المعتقلين. وأكد التقرير أن السلطات القضائية لم توفّر أساسًا قانونيًا لهذه الاعتقالات التعسفية طويلة الأمد ولم تتخذ إجراءات لإنهاء هذه الممارسة.

وطالبت "هيومن رايتس ووتش" في تلك الفترة من المدعي العام الليبي في طرابلس أن يأمر بالإفراج الفوري عن جميع المحتجزين لأكثر من عام دون تهمة أو الذين لم توافق المحكمة على احتجازهم وإلى وضع حد للتعذيب المنتشر وغيره من ضروب سوء المعاملة في السجون الخاضعة لسيطرتها. كما دعت مجلس الأمن الدولي تصعيد الضغط من أجل الامتثال لقراراته بشأن ليبيا، وعلى المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق إضافي في الانتهاكات الجارية في نطاق اختصاصها.

خلال السنوات اللاحقة بقيت الظاهرة منتشرة، بل تتكرر حالات القتل داخل المعتقلات بما جعل منظمات دولية مثل "هيومن ريتس" أو "أطباء بلا حدود"، تنبه إلى أن مثل هذه الحالات تعتبر جرائم ضد الإنسانية، محملة المجتمع تبعات ما يحصل، خاصة أن بعض السجون تفتقد إلى أبسط الظروف وتنتشر فيها الأمراض، وبعض المراكز اندلعت فيها النيران ما أدى إلى مقتل مسجونين داخلها. ودعت تلك المنظمات إلى إنهاء الاحتجاز التعسفي للمهاجرين واللاجئين في ليبيا وإنشاء آليات حماية بما في ذلك الملاجئ للفئات الأكثر ضعفاً حيث يمكن ضمان الأمن والمساعدة لهم على وجه السرعة، بالإضافة إلى العمل على التسريع بإطلاق سراحهم.

ويرجع مراقبون مظاهر الاعتقال التعسفي في ليبيا خلال السنوات الماضية إلى عدم وجود سلطة حكومية مركزية وغياب نظام عدالة في أجزاء كثيرة من البلاد، بما في ذلك شبه توقف الإجراءات القانونية، الأمر الذي عقد إجراءات التقاضي أو الخضوع لقوانين نافذة، وهذا سيكون من الملفات العالقة على طاولة السلطة التنفيذية الجديدة المطالبة بالعمل هذا الملف بأسرع وقت ممكن باعتباره ملفا إنسانيا لا ينتظر التأخير.