في ديسمر 2016، وبعد ثمانية أشهر من المواجهات الضارية التي خاضتها قوات "البنيان المرصوص" التابعة لحكومة الوفاق الليبية،تحررت مدينة "سرت" الساحلية بشكل كامل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، ليسدل الستار على أحد أكبر معاقل التنظيم الذي إستغل الفوضى وغياب الدولة ليتغلغل في أراضي ليبيا.

ورغم مرور قرابة عامين على تحرير المدينة الليبية من عناصر تنظيم داعش المتطرف، فإن آثار تلك الرحلة مازالت تتصدر المشهد الليبي في ظل تواصل مسلسل العثور على جثت القتلى وضحايا الحرب التي شهدتها المدينة.


** مقبرة جديدة

ومنذ تحرير المدينة، يتم العثور بشكل متكرر على مقابر جماعية،آخرها تلك التي عثر عليها في احدى المزارع بمنطقة الظهير جنوب غرب مدينة سرت مساء الثلاثاء 9 أكتوبر 2018،حيث بدأت جمعية الهلال الأحمر الليبي، في إنتشال الجثث "بحضور آمر غرفة حماية وتأمين سرت، ووكيل النيابة العامة، والنائب العام، وفرقة الهلال الأحمر الليبي فرع سرت".بحسب بيان للجمعية.

وقال محمد الأميل، المتحدث باسم المجلس البلدي في مدينة سرت،لوكالة "فرانس برس"،إنّ "عدد الرفات ارتفع إلى 110 بعد أيام من العثور على مقبرة جماعية في منطقة الّتي تقع على بعد 14 كلم غرب سرت".وكان المجلس البلدي بسرت (450 كلم شرقي طرابلس) أعلن الأربعاء، العثور على رفات 75 شخصا في المدفن. 

وقال الأميل، قبل أيام، "إن مواطنًا تقدم ببلاغ يفيد بوجود مقبرة جماعية ببلدة الظهير غرب المدينة، حيث انتقلت قوة أمنية للمنطقة المذكورة وهى عبارة عن أرض زراعية، وعثر بها على 75 جثة متحللة".وأضاف أن "الجثث تم انتشالها بحضور النيابة العامة والقوة المكلفة بتأمين سرت والهلال الأحمر بالمدينة، مرجحًا أن تعود الجثث لعناصر تنظيم "داعش"، رغم أنه لا يوجد تأكيد على ذلك.

وأضاف المتحدث أنه "تم ضبط مقتنيات شخصية وأجهزة هواتف مدفونة مع الجثث". وتقوم السلطات في حال اكتشاف جثث بإجراء تحاليل حمض نووي لكشف هويات أصحابها.وفي هذا الصدد،قال الأميل "أبلغتنا النيابة العامة صعوبة تحديد هوياتهم ، لأن الأمر يستلزم بعض الوقت واخذ الحمض النووي لهم وإجراء الفحوصات اللازمة".

ويتم العثور، بشكل متكرر، على الجثث في عدة مناطق في سرت، ومنذ العام 2016،تتواصل عملية انتشال الجثث من المدينة الساحلية، حيث شكل مجلس سرت البلدي في وقت سابق لجنة مكلفة بالبحث عن الجثث داخل المدينة، انتشلت العديد من الجثث مجهولة الهوية في عدد من المناطق بالمدينة.

ولا يخفي أهالي المدينة انزعاجهم المتكرر حيال المقابر الجماعية التي يعثر عليها تباعا خصوصا داخل الأحياء السكنية وفي بعض المدارس التي حولها التنظيم لفروع لمقراته العديدة،فقد سبق أن وجهوا نداءات عديدة إلى المجلس الرئاسي من أجل التنسيق مع الجهات المختصة لانتشال كل الجثث المنتشرة في المناطق المدمرة جراء الحرب؛ الأمر الذي سيتسبب في انتشار الأمراض والأوبئة في المدينة.


** مرحلة صعبة

وكانت بداية الوجود الداعشي في سرت في فبراير/شباط 2015،عندما استولى المتطرفون على المدينة الساحلية،مستغلين في ذلك حالة الفوضى السياسية والأمنية في ليبيا .وبعد أشهر معدودة من ذلك استولوا على نحو 290 كلم من ساحل البحر الأبيض المتوسط، بما فيه من حقول النفط والمصافي، وقاموا بنشر معسكرات تدريب في هذه المنطقة.

وخلال فترة سيطرته على سرت،إرتكب داعش من الجرائم ما تقشعر له الأبدان في صفوف رجال ونساء وشيوخ وأطفال المدينة الواقعة على كتف البحر المتوسط،وشملت فظاعات التنظيم الإرهابي في ليبيا جرائم صلب وجلد للرجال جراء قيامهم بممارسات مثل التدخين أو فقط لأنهم استمعوا إلى الموسيقى.

سيطرة "داعش" على مدينة سرت الليبية امتدت إلى كافة مناحي الحياة بين سكان المدينة،إذ حدد التنظيم مجموعة من الأوامر والنواهي؛ عممها في كافة أنحائها، شملت تحديد طول سراويل الرجال، واتساع ولون عباءات النساء، وطبيعة الدروس التي يتلقاھا الطالب في المدارس الحكومية.كذلك شملت إجراءات التنظيم نھب وتدمير منازل من لم يدينوا بالولاء المُطلق له باعتبارهم أعداء.

القبضة الأمنية للتنظيم داخل المدينة الساحلية، بما شملته من إجراءات القبض على آلاف السكان المحليين، جعلته يتوسع في بناء السجون، بعد ضيق السجون المتواجدة على أعداد المُعتقلين؛ إذ أنشأ ثلاثة سجون جديدة.وأسس التنظيم ما يُعرف بشُرطة الحسبة، وهي كتيبة تتألف من عناصر من التنظيم، ذكورًا وإناثًا، تنحصر مهامها في فرض العقوبات على من يخالفون تعليمات التنظيم في المدينة.

ومن العقوبات التي عممها التنظيم في المدينة خطف الرجال من منازلھم ليلًا على يد مقاتلين ملثمين، وقطع الرؤوس في الشارع، وتعليق الجثث في ملابس برتقالية تتدلى من السقالات.وسعى التنظيم من وراء هذه الصور إلى  تحذير الآخرين من الخروج عن نظامه وسيطرته.

** مخاوف

وبالرغم من أن سحابة "داعش" السوداء قد إنقشعت، بعد طرده من المدينة نهاية العام 2016 ،إلا أن قصص جرائم القتل والبتر والتصفية والتعذيب في ساحات المدينة ما تزال عالقة في أذهان أهالي سرت، الذين عانوا ويلات تنظيم إرهابي، جثم على صدورهم لِما يزيد عن سنة ونصف.

ويخشى السكان من تكرار هذه التجربة المؤلمة في ظل تواصل الحديث عن إستمرار وجود داعش في الأراضي الليبية وخاصة نواياه للعودة إلى المدينة الساحلية، فمن وقت إلى آخر يحوم عناصر التنظيم الإرهابي على أطراف المدينة، ويقيمون نقاط تفتيش للمارة، وينفذون عمليات إرهابية في أماكن عدة بالبلاد.

ولم تنقطع التحذيرات من عودة "داعش" الي سرت منذ تحريرها،خاصة مع رصد متكرر لتحركات عناصر التنظيم في محيط المدينة.كما أعلن التنظيم في أكثر من مرة عبر مقاطع مصوّرة عن تواجده مجددا في المنطقة المحيطة بمدينة سرت التي تمتد لمساحات شاسعة.

وفي سياق متصل، قال سالم الأميل، الناطق باسم سرية نزع الألغام والمخلفات الحربية التابعة لقوة حماية سرت، في حديث إلى "الشرق الأوسط"، الخميس الماضي، رداً على تحركات التنظيم المباغتة "نعم لديهم تحركات من حين إلى آخر، لكنهم منتشرون أكثر في مدن الجنوب الليبي".

وأضاف الأميل، أن "قوة حماية سرت اكتسبت خبرة من كثرة مواجهات التنظيمات الإرهابية، وأصبح "الدواعش" يتجنبون القدوم أو التحرك بالقرب من سرت"، موضحاً في هذا السياق أنه "تم القبض على كثير من الـ"دواعش"، الذين حاولوا التسلل إلى سرت، وتفكيك أغلب الخلايا الإرهابية، ولولا قلة الإمكانات لطاردناهم في الصحراء". وانتهى الأميل إلى أن "الخدمات الحكومية في سرت على قدم وساق، حيث جرى إزالة أغلب آثار التنظيم والدمار، والمدينة تشهد حالة استقرار، والأمور تسير بشكل اعتيادي".

ورغم أن "داعش" لم يعد يسيطر إلاّ على مساحات محددة داخل ليبيا، إلا أن عناصره نفذت خلال الفترة الأخيرة سلسلة تفجيرات انتحارية وهجمات إستهدفت نقاط تفتيش أمنية ومنشآت عامة على غرار الهجوم الذي إستهدف مقر المفوضية العليا للانتخابات،في مايو/أيار الماضي،والهجوم الذي إستهدف مقر المؤسسة الوطنية للنفط،في سبتمبر الماضي،في العاصمة الليبية طرابلس.