ساهم إنهيار مؤسسات الدولة وغياب سلطة القانون،في ترسيخ وجود الميليشيات في ليبيا،حيث إستغلت إنتشار السلاح في البلاد لتكون لنفسها مناطق نفوذ تحت سلطة الرصاص، وهو ما أدخل البلاد في دوامة من العنف والفوضى وشكل خطرا كبيرا على حياة المواطن الليبي الذي بات في مرمى إنتهاكات الجماعات المسلحة.
وتثير الصراعات المتجددة والاشتباكات المسلحة بين الميليشيات في العاصمة الليبية استنكارا وتنديدا واسعين على الصعيدين الداخلي والخارجي.وتلقي الضوء على تساؤلات عديدة تتصاعد حول مدى قدرة حكومة الوفاق على بسط سيطرتها على العاصمة والحد من سطوة الميليشيات وإنهاء وجودها الذي يخنق أي أمل في الوصول إلى تسوية سياسية في البلاد.
تداخل اختصاصات
وتتصاعد حدة الصراع بين الميليشيات المسلحة،منذ سيطرتها على العاصمة الليبية طرابلس،فلا تكاد التوتر حتي يعود من جديد في ظل تواصل حرب النفوذ وتضارب المصالح والأجندات بين الميليشيات.
وفي مشهد جديد للتوتر الأمني في العاصمة،تحدثت تقارير إعلامية عن إغلاق مجموعات مسلحة تابعة لميليشيا الكانيات،الأحد،المدخل الجنوبي والجنوبي الشرقي للعاصمة طرابلس بالسواتر الترابية.ونقلت عن مصادر ان هناك انتشار الأسلحة الثقيلة في منطقة قصر بن غشير ووادي الربيع ، والطرق الفرعية المؤدية إلي قصر بن غشير وسوق السبت والسبيعة مغلقة بالسواتر الترابية من قبل.
يأتي هذا في وقت نفى فيه المجلس البلدي ترهونة، ما يتم تداوله على صفحات التواصل الاجتماعى التي تدعي أنها تتبع جهات أمنية بالمدينة ومنها صفحة اللواء السابع مشاة ، مؤكدة بأن تلك الصفحات تعد مزورة.ودعا المجلس، في بيان أصدره السبت، كافة الأجهزة الأمنية بالعاصمة طرابلس للتواصل المباشر مع الغرفة الأمنية ترهونة وعدم الانجرار خلف هذه الشائعات.
وأعلن مشايخ وحكماء ترهونة والنواحي الأربع في بيان لهم أن تحرك اللواء السابع والدعم المركزي يأتي في إطار تأمين الحدود الإدارية للمنطقة والعاصمة طرابلس أيضا.وأوضح المشايخ والحكماء أن اللواء السابع تبعيته تعود للمجلس الرئاسي المقترح، داعين إياه إلى ضرورة التنسيق بين قواته لمنع تضارب الاختصاصات بشأن تأمين مدن طوق العاصمة طرابلس.
وكانت "كتيبة اللواء الثامن مشاة" بمنطقة ترهونة والمعروف باسم ميليشيا "الكانيات"،قالت في بيان نشرته عبر حسابها على "فيسبوك"،الجمعة 24 أغسطس 2018،عن عزمها استعادة تمركزها بمنطقة قصر بن غشير جنوب شرقي طرابلس، بعدما هاجمتها فصائل تابعة لمليشيات "ثوار طرابلس".
وقالت "الكانيات"،في بيانها، إنها "بعد أن أغلقت الطرق المؤدية إلى تلك المنطقة بطوق يحمي العاصمة وأهلها، وأصبح اللواء السابع يقف عائقاً أمام أصحاب "المشاريع الظلامية" ومنعها من جلب المخدرات بكل أنواعها وتهريبها للعاصمة من أجل ضرب عقول الشباب ونشر الفوضى داخل العاصمة، هاجمت مجموعات مسلحة تنتمي إلى كتيبتي "ثوار طرابلس" و"النواصي" مواقع تمركز اللواء السابع مشاة وقوة الدعم المركزي ترهونة القوة المكلفة بحماية قصر بن غشير".
وأضافت ميليشيا "الكانيات"،أن "هذه المجموعة الباغية لا تؤمن بالأمن والاستقرار وتريد البلاد دائماً في فوضى"، وتوعدت بأنها "ستضرب بيد من حديد كل من يريد العبث بأمن وسلامة المواطنين". واستدركت:"نتمنى من كل الأسر التي ينتمي أبناؤها إلى هذه الميليشيات أن ينصحوهم بتركهما ويوجهونهم إلى الطريق الصحيح"، متابعة:"أمراء تلك الميليشيات يتبعون أجندات خارجية وهدفهم الوحيد تدمير عقول الشباب والزج بهم في المعارك ضد أبناء الوطن الواحد ونشر الفتنة والخراب".
وتسيطر مليشيات "ثوار طرابلس" على غالبية أجزاء تاجوراء وجنوب شرقي العاصمة، بالإضافة إلى أجزاء من سوق الجمعة القريب من المطار وقاعدة معيتيقة.وإلى جانب كونها مليشيات مسلحة عرف عنها أيضاً أنها تتاجر بالبشر والمخدرات، لا سيما في منطقة قصر بن غشير، وهي تضم عدداً من تجار المخدرات في مراكز قيادية.
الميليشيات والوفاق
وتتواجد في طرابلس عشرات الميليشيات المسلحة بعضها يمارس أعمال الحرابة والسطو والخطف مقابل فدية وغيرها، اضافة الى الجريمة المنظمة وتجارة البشر والهجرة غير الشرعية والرقيق الأبيض وتجارة المخدرات،فيما تتمتع ميليشيات أخرى بقدرات تسليحية وتعبوية كبيرة،وتتصارع بشكل متكرر على النفوذ والسلطة.
وتعدّ تحالفات المليشيات المسلحة شديدة التعقيد ويصعب على المتابع للمشهد الليبي فرزها بسهولة، حيث تتعدد الولاءات وتتحول من حين لآخر بحسب مصالح هذه الميليشيات. ومع دخولها في مارس/آذار من العام 2016، سعت حكومة الوفاق إلى عقد اتفاقيات مع عدد من المليشيات المسلحة من أجل تسهيل عملها داخل العاصمة وضمان أمنها مقابل منحها دور في المشهد.
وعكست الصدامات المسلحة بين هذه المجموعات موقفها الغامض من حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج،فظاهريًا، تتبع ميليشيات طرابلس إلى وزارة داخلية حكومة الوفاق، وتنفذ أوامرها وتدافع عنها من جهة، من جهة آخرى تمارس كل ما يصب في صالحها، دون اعتبار لقانون أو عرف أو حقوق إنسان.
وتشير تقارير إعلامية إلى أن نشاطات هذه الميليشيات،تبدأ من التجارة غير الشرعية إلى الخطف على الهوية إلى استعباد المهاجرين والمتاجرة بهم، إلى التحكم في عمليات صرف الأموال من البنوك وقرارات المؤسسات السيادية وحتى ساعات وصول التيار الكهربائي وطرح الأحمال بالقوة.
وتتصاعد الانتقادات لحكومة الوفاق بسبب عجزها عن بسط سيطرتها تعوّيلها على الميليشيات التي أعلنت ولاءها لها،والتي مازالت في مرمى الاتهامات والشكوك.وفي هذا السياق،نقلت صحيفة "الشرق الأوسط"،عن مصدر أمني في شرق البلاد،قوله إن "الميليشيات المسلحة في العاصمة، تغولت بشكل مخيف في جميع مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية"، متابعاً:"يجب التعامل سريعاً مع تلك المجموعات قبل أن يدمروا طرابلس، ومحاسبة المتورطين معهم من القيادات السياسية".
وأضاف المصدر الأمني:"سبق ونبّه العقلاء في بلادنا بخطورة الاعتماد على هذه الميليشيات ودمجها في الأجهزة الأمنية ومنحها مرتبات وامتيازات، لكن دون جدوى، وهنا نحن نرى النتيجة اشتباكات من وقت لآخر ودمار".
وتواجه الميليشيات المسيطرة على طرابلس، والمدعومة من حكومة الوفاق اتهامات عدة بممارسة خطف السياسيين والنشطاء، وإيداعهم سجونها دون محاكمات، فضلاً عن تغولها في الحياة السياسية، وتأثيرها على المؤسسات السيادية،في وقت باتت فيه الحكومة عاجزة وغير قادرة على كبح جماح هذه الجماعات المسلحة.
خطة مشتركة
وكشفت صحيفة "العربي" عن اعتزام رئيس المجلس الرئاسي المقترح فايز السراج إطلاق خطة أمنية بهدف الحد من سيطرة المليشيات المسلحة على العاصمة طرابلس بدعم من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.وذكرت الصحيفة،السبت 25 أغسطس 2018، عن مصدر مقرب من حكومة الوفاق، أن خطة السراج الأمنية تسعى إلى السيطرة على المليشيات المسلحة المنتشرة وضبطها من خلال تعيين قادة جدد بقرار رسمي.
وأوردت الصحيفة عن المصدر،قوله أن مليشيات "كتيبة ثوار طرابلس"، التي يقودها هيثم التاجوري، هي هدف السراج الأول، وذلك بعد تغولها وسعيها إلى الانفراد بالقرار الأمني في المناطق التي تسيطر عليها، لا سيما شرق العاصمة، مشيراً إلى تورط تلك المليشيات في مخالفات كبيرة كإرغام مسؤولين على توقيع عقود لرجال أعمال يدعمون هذه المليشيات، فضلاً عن تورطها في تجارة المخدرات والبشر.
وأضاف المصدر أن خطة السراج تسعى كذلك إلى ضبط صلاحيات وقوة المليشيات الأخرى كمليشيات الأمن المركزي التي يقودها عبد الغني الككلي، التي يبدو عليها هي الأخرى محاولات انفرادها بالقرار الأمني في مناطق سيطرتها.وشدد على أن الخطة الأمنية الجديدة تهدف إلى ضرب نفوذ المليشيات، مشيراً إلى دعم خارجي وراء الحملة الأمنية.
وتعتبر كتيبة "ثوار طرابلس" بقيادة هيثم التاجوري من أكبر الميليشيات المسلحة المسيطرة على العاصمة، بالإضافة إلى كتيبة "النواصي"، بقيادة عائلة قدور، و"قوة الردع الخاصة" بقيادة عبد الرؤوف كارة، ووحدة "أبو سليم" التابعة لجهاز الأمن المركزي، بقيادة عبد الغني الككلي.وسيطرت الميليشيات الأربع على وسط طرابلس في مارس (آذار) 2017، وعقب شهرين طردوا المجموعات المنافسة من جنوب طرابلس. ولا توجد معارضة سوى في منطقة تاجوراء.
انتقادات أممية
ويأتي هذا في أعقاب إنتقادات حادة وجهتها،الأسبوع الماضي،بعثة الأمم المتحدة للدعم بليبيا لحكومة الوفاق بالتواطئ مع الميليشيات المسلحة.وأعبت البعثة في بيان لها عن "إدانتها الشديدة لأعمال العنف والتخويف وعرقلة عمل المؤسسات السيادية الليبية من قبل رجال الميليشيات"، الذين يشكلون ما يعرف بـ"كارتيل طرابلس"، في مقاربة مع وفاق الوطني، المؤسسات السيادية ويمنعونها من أداء عملها بشكل فعال"، مؤكدة أن "التدخل في عمل المؤسسات السيادية وفي الثروة الوطنية الليبية أمر خطير ويجب أن يتوقف على الفور.
ولم تحدد البعثة في بيانها أي أسماء، ولم تذكر هوية الميليشيات التي اتهمتها بالتدخل في إدارة شؤون البلاد، لكنها دعت في المقابل حكومة السراج إلى "اتخاذ الخطوات اللازمة لمقاضاة المسؤولين عن هذه الأعمال الإجرامية". وأضافت، أن "الأمم المتحدة ستقدّم تقريراً بهذا الشأن إلى المجتمع الدولي، وستعمل مع جميع السلطات المختصة للتحقيق في إمكانية فرض عقوبات ضد أولئك الذين يتدخلون أو يهددون العمليات التي تضطلع بها أي مؤسسة سيادية تعمل لصالح ليبيا والشعب الليبي.
وكان رئيس المؤسسة الليبية للاستثمار، علي محمود، قد أعلن خلال اجتماعه بنائبة رئيس البعثة الأممية لدى ليبيا، ستيفاني وليامز،في وقت سابق، عن تدخل مليشيات تقوم بحماية مقر المؤسسة في قرارات المؤسسة، مما اضطرها إلى نقل مقرها إلى مكان آخر.فيما كشفت المؤسسة الوطنية للنفط كشفت بدورها،عن تعرض عدد من موظفيها للاختطاف من مقار أعمالهم بقوة السلاح من قبل مجموعات مسلحة.
وسبق أن أكدت لجنة الخبراء الخاصة بليبيا في الأمم المتحدة،إن استخدام العنف لبسط السيطرة على مؤسسات الدولة ينذر بتجدد المواجهات المسلحة بطرابلس.وجاء في تقرير للجنة نشرته وكالة أسوشيتد برس الأمريكية،الجمعة 10 أغسطس/آب، أن "السلوك الافتراسي" للمجموعات المسلحة بالبلاد يمثل تهديدا مباشرا لتشكيل حكومة وطنية وللعملية السياسية، وإنهاء حالة انعدام القانون".
ورغم تراجع نشاط الجماعات المتشددة في ليبيا، يبقى البلد ليس بمنأى عن مخاطر المتطرفين وهو ما أكده الهجوم الإرهابي الأخير على بوابة كعام الواقعة بين مدينة زليتن والخمس القريبتين من طرابلس مما أسفر عن سقوط ضحايا.ويؤكد هذا الهجوم أن الانقسام السياسي والتنازع على الشرعية يبقي البلاد في دائرة الخوف.وبالرغم من الجهود المتواصلة للوصول إلى تسوية شاملة فان العديد من المراقبين يرون بأن إنهاء نفوذ الميليشيات يبقى النقطة الأولى لتحقيق الإستقرار في البلاد.